الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالمدة التي لا يجوز للزوج أن يغيب عن زوجته أكثر منها هي ستة أشهر وقيل أربعة أشهر، وهذه هي التي ضربها الإسلام للمولي من امرأته، أي الذي يحلف ألا يقربها، قال تعالى: لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآؤُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {البقرة:226}، وقيل غير ذلك..
ثم إن كان غيابه يزيد عن تلك المدة فإن اتفقا على ذلك فلا إشكال وإن لم يتفقا ولم يكن الغياب في طلب الرزق أو في أداء عمل واجب عليه كسفر حج ونحو ذلك فلا بد من رضا الزوجة وإذنها وإلا أثم ببعده عنها، لأن فيه إخلالاً بحقها، وقد سبق بيان ذلك تفصيلاً في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 10254، 32062، 77173.
وأما تحديد تلك المدة بأربعة أشهر وعشرة أيام فلا نعلم أحداً من الفقهاء قال به، وهذه الفترة هي المدة التي تعتدها من توفي عنها زوجها.
هذا وقد أخذت بعض الأنظمة المعاصرة بتحديد الفترة المسموح للزوج الغياب فيها -دون عذر مقبول- عن زوجته بسنة كاملة وجعلوا لها الحق في طلب الطلاق بعد ذلك لدفع الضرر الواقع عليها بسبب غيابه حتى ولو كان له مال تستطيع الإنفاق منه..
ومما سبق يفهم أنه ليس كل غياب للزوج عن زوجته يحصل به الإثم، وأن السفر للعمل لتحصيل الرزق الواجب عليه ليس فيه حرج، لكن مع ذلك ينبغي للزوج أن يقدر المصالح والمفاسد المترتبة على غيابه وأن يوازن بينها.
ومن جميل القول في ذلك ما ذكره الشيخ عطية صقر في تلك المسألة حيث قال: إن بعد الزوج عن زوجته -حتى لو وافقت عليه حياء أو مشاركة في كسب يفيدهما معاً- يختلف في أثره عليها، ولا تساوى فيه الشابة مع غيرها، ولا المتدينة مع غيرها، ولا من تعيش تحت رعاية أبويها مع من تعيش وحدها دون رقيب، وإذا كنت أنصح الزوجة بتحمل بعض الآلام لقاء ما يعانيه الزوج أيضاً من بعد عنها فيه مصلحتهما معاً، فإني أيضاً أنصح الزوج بألا يتمادى في البعد، فإن الذي ينفقه حين يعود إليها في فترات قريبة سيوفر لها ولأولاده سعادة نفسية وعصمة خلقية لا توفرها المادة التي سافر من أجلها، فالواجب هو الموازنة بين الكسبين، وشرف الإنسان أغلى من كل شيء في هذه الحياة، وإبعاد الشبه والظنون عن كل منهما يجب أن يعمل له حسابه الكبير.
ولئن كان عمر رضي الله عنه بعد سؤاله حفصة أم المؤمنين بنته قد جعل أجل الغياب عن الزوجة أربعة أشهر. (مصنف عبد الرزاق وتفسير للقرطبي. ج3 ص108 والسيوطي في تاريخ الخلفاء ص 96 وابن الجوزي في سرة عمر ص 59)، فإن ذلك كان مراعى فيه العرف والطبيعة إذ ذاك، أما وقد تغيرت الأعراف واختلفت الطباع، فيجب أن تراعى المصلحة في تقدير هذه المدة، وبخاصة بعد سهولة المواصلات وتعدد وسائلها. انتهى.
والله أعلم.