الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد جاء في الحديث نفسه ما يفسر ذلك، فروى مسلم في صحيحه عن أنس: أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها عن ذلك؟ فقالت: أردت لأقتلك، قال: «ما كان الله ليسلطك على ذاك».
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يعتمد على عصمة الله له، بعد أن وعده بالعصمة من الناس، فقال: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67].
قال الجلال المحلي في تفسيره: {والله يعصمك من الناس} أن يقتلوك، وكان صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت، فقال: "انصرفوا فقد عصمني الله" رواه الحاكم. اهـ.
وروى الترمذي في سننه عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس، حتى نزلت هذه الآية: (والله يعصمك من الناس) فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة، فقال لهم: "يا أيها الناس انصرفوا؛ فقد عصمني الله".
وقال ابن كثير في تفسيره: ومن عصمة الله -عز وجل- لرسوله، حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومعانديها ومترفيها، مع شدة العداوة والبغضة، ونصب المحاربة له ليلا ونهارا ...
ولما كاده اليهود بالسحر حماه الله منهم، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء، ولما سم اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر، أعلمه الله به وحماه الله منه؛ ولهذا أشباه كثيرة جدا يطول ذكرها. اهـ.
ومن حكمة ذلك أيضا تضافر علامات النبوة وتكاثرها، ليهلك من هلك عن بينة، كاليهود الذين أرادوا بوضع السم أن يختبروا نبوته، رغم وضوح صحتها، فلما تبين لهم عاندوا ولم يسلموا.
فقد روى البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما فتحت خيبر أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:... "هل جعلتم في هذه الشاة سما". قالوا: نعم، قال: "ما حملكم على ذلك". قالوا: أردنا إن كنت كاذبا نستريح، وإن كنت نبيا لم يضرك.
قال القاضي عياض في «إكمال المعلم»: فيه عصمة النبي -عليه السلام- من الناس، كما قال تعالى: {والله يعصمك من الناس}، ومعجزته في كفاية الله له من السم المهلك لغيره، ومعجزته إعلام الله -تعالى- بأنها مسمومة، وكلام عضو ميت له صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في غير الأم: أن النبي عليه السلام قال: "إن هذا الذراع يخبرني بأنها مسمومة". اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»: وفي حديث أنس المشار إليه، فقالت: أردت لأقتلك، فقال: "ما كان الله ليسلطك على ذلك"، وفي رواية سفيان بن حسين عن الزهري، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة في نحو هذه القصة، فقالت: "أردت أن أعلم إن كنت نبيا فسيطلعك الله عليه، وإن كنت كاذبا فأريح الناس منك" أخرجه البيهقي ... اهـ.
وقال أبو العباس القرطبي في «المفهم»: لم يضرَّ ذلك السُّم رسول الله صلى الله عليه وسلم طول حياته غير ما أثَّر بلهواته، وغير ما كان يعاوده منه في أوقات، فلما حضر وقت وفاته أحدث الله تعالى ضرر ذلك السُّم في النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتوفي بسببه، كما قال صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه: "لم تزل أكلة خيبر تعاودني، فالآن أوان قطعت أبهري" فجمع الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم بين النبوَّة والشهادة، مبالغة في الترفيع والكرامة. اهـ.
وانظر لمزيد الفائدة عن ذلك، الفتوى: 193515.
والله أعلم.