السؤال
هل كان الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومين من وسوسة الشيطان؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذه المسألة من مسائل أصول الدين الكبيرة، والتي كثر فيها الخلاف وانتشر بين النظار والمتكلمين، والحاصل أن جمعًا من أهل العلم جوزوا على الأنبياء نزغ الشيطان ووسوسته، ومن ثم قالوا بوقوع صغائر الذنوب غير المزرية منهم، ولكنهم يتداركونها بتوبة عاجلة يكونون بعدها أفضل مما كانوا قبلها، واستدلوا على ذلك بظواهر قرآنية من مثل قوله تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ {فصلت:36}. وقوله: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ {الأنعام:68}. وقوله: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ {يوسف:42}.
ونحو ذلك من الآيات، ومنعوا أن تكون وسوسة الشيطان للنبي من السلطان المنفي أن يكون له على عباد الله المخلصين.
قال صاحب المنار: وَقَدِ اسْتشْكَلَ إِنْسَاءُ الشَّيْطَانِ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى عِبَادِ اللهِ الْمُخْلَصِينَ، وَخَاتَمُ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْلَصُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ وَأَكْمَلُهُمْ، بَلْ وَرَدَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ{16: 99ـ 100} وَلَكِنَّ إِنْسَاءَ الشَّيْطَانِ بَعْضَ الْأُمُورِ لِلْإِنْسَانِ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ التَّصَرُّفِ وَالسُّلْطَانِ، وَإِلَّا لَمْ يَقَعْ إِلَّا لِأَوْلِيَائِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ فَتَى مُوسَى حِينَ نَسِيَ الْحُوتَ: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ {18: 63}، وَإِنَّمَا كَانَ فَتَاهُ -أَيْ خَادِمَهُ لَا عَبْدَهُ- يُوشَعُ بْنُ نُونٍ كَمَا فِي الْبُخَارِيِّ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ نَبِيٌّ.
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ {12: 42} الْآيَةَ أَنَّ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ، إِذْ أَمَرَ النَّاجِيَ مِنْ صَاحِبَيْهِ فِي السِّجْنِ بِذِكْرِهِ عَنْدَ الْمَلِكِ وَابْتِغَاءِ الْفَرَجِ مِنْ عِنْدِهِ: فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ـ عُقُوبَةً لَهُ، بَلْ ذَكَرَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا فِي ذَلِكَ، رَوَوْهُ مُرْسَلًا وَمَوْصُولًا، وَهُوَ: لَوْ لَمْ يَقُلْ يُوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ الْكَلِمَةَ الَّتِي قَالَ، مَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ، حَيْثُ يَبْتَغِي الْفَرَجَ مِنْ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى ـ هَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَهَا، أَخْرَجَهَا عَنْهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ الْعُقُوبَاتِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ نِسْيَانَ الشَّيْءِ الْحَسَنِ الَّذِي يُسْنَدُ إِلَى الشَّيْطَانِ لِكَوْنِهِ ضَارًّا أَوْ مُفَوِّتًا لِبَعْضِ الْمَنَافِعِ، أَوْ لِكَوْنِهِ حَصَلَ بِوَسْوَسَتِهِ وَلَوْ بِإِشْغَالِهَا الْقَلْبَ بِبَعْضِ الْمُبَاحَاتِ، لَا يَصِحُّ أَنْ يُعَدَّ مِنْ سُلْطَانِ الشَّيْطَانِ عَلَى النَّاسِي، وَاسْتِحْوَاذِهِ عَلَيْهِ بِالْإِغْوَاءِ وَالْإِضْلَالِ الَّذِي نفاه الله عن عباده المخلصين. انتهى.
وطائفة أخرى من العلماء نفت تسلط الشيطان على الرسل ولو بالوسوسة، وتأولوا هذه الظواهر القرآنية، وممن بالغ في هذا القاضي عياض -حمه الله- في الشفا، وقال الألوسي في قوله تعالى: وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ـ والآية على ما نص عليه بعض المحققين من باب: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ {الزمر: 65}، فلا حجة فيها لمن زعم عدم عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من وسوسة الشيطان وارتكاب المعاصي، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة قالوا: وإياك يا رسول الله قال: وإياي إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير. انتهى.
هذا بعد حصول الاتفاق على عصمة الأنبياء من وسوسة الشيطان المفضية إلى الشرك أو إلى فعل كبيرة أو صغيرة من الصغائر المزرية، وعلى أنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله تعالى، والمسألة طويلة الذيل جدًا، وانظر للفائدة بحث: عصمة الأنبياء في كتب الرسل والرسالات ـ للدكتور عمر الأشقر رحمه الله.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني