السؤال
تُراودني فكرة الخلود في الجنة -اللهم اجعلنا من أهلها-، فهل هناك خلود؟ وكيف الخلود؟ أنا لا أشكك في الخلود نفسه، وإنما لا أعرف صفاته، ولا أعرف كيف سيكون قياسًا في الواقع، وماذا سنفعل ونحن خالدون أبدًا؟ وهل سيخلق الله عز وجل دنيا أخرى، وأرضًا أخرى بعد أن تفنى هذه الدنيا؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فبحسب الأخ السائل ألا يشك في خلود أهل الجنة، وإن جهل كنهه، ولم يدرك مداه، ولم يعرف صفاته! فإن أمور الآخرة وأحوالها لا يصح قياسها على أمور الدنيا وأحوالها؛ وبهذا يعرف السائل مكمن الخطأ في قوله: (لا أعرف كيف سيكون قياسًا في الواقع؟)؛ فلا يمكن إدراك حقيقة نعيم الجنة، فضلًا عن الخلود فيه، بالقياس على شيء من أمور الدنيا، فلا وجه للمقارنة أو المقاربة؛ حتى قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء. رواه هناد بن السري في كتاب: الزهد، ومسدد في مسنده.
ومثال ذلك أنا لا نتصور في الدنيا فضة لها صفاء الزجاج، ولكن هذا موجود في الجنة، قال ابن القيم في «حادي الأرواح»: قال تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا. قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} فالقوارير هي الزجاج، فأخبر سبحانه وتعالى عن مادة تلك الآنية أنها من الفضة، وأنها بصفاء الزجاج وشفافيته، وهذا من أحسن الأشياء، وأعجبها، وقطع سبحانه توهم كون تلك القوارير من زجاج، فقال: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} قال مجاهد، وقتادة، ومقاتل، والكلبي، والشعبي: قوارير الجنة من الفضة. فاجتمع لها بياض الفضة، وصفاء القوارير. قال ابن قتيبة: كل ما في الجنة من الأنهار، وسررها، وفرشها، وأكوابها مخالف لما في الدنيا من صنعة العباد. اهـ.
وقال الشيخ ابن عثيمين -كما في مجموع فتاويه ورسائله-: على المؤمن أن يؤمن بكل ما جاء به الكتاب والسنة من هذه الأمور الغيبية، وأن لا يعارضها بما يشاهد في الدنيا؛ فإن أمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا؛ لظهور الفرق الكبير بينهما. اهـ.
ومن القياس الفاسد لأمور الآخرة ونعيم الجنة، على أمور الدنيا ونعيمها: تخيل أن الخلود يلزم منه الملال، والسآمة، والفراغ؛ فلا يجد المرء ما يفعله! فهذا لا يكون في الجنة أبدًا، وراجع في ذلك الفتويين: 120096، 142297.
وقال ابن الجوزي في «زاد المسير»: إن قيل: قد علم أن الجنة كثيرة الخير، فما وجه مدحها بأنهم لا يبغون عنها حولًا؟
فالجواب: أن الإنسان قد يجد في الدار الأنيقة معنى لا يوافقه، فيحب أن ينتقل إلى دار أخرى، وقد يملّ، والجنة على خلاف ذلك. اهـ.
وأما السؤال الثاني، فجوابه: أن ذلك مما لا نعلم فيها نصًّا من الوحي المعصوم بإثبات، أو نفي، فنكل علم ذلك لعالمه سبحانه، ولا نخوض في الغيب دون برهان.
والله أعلم.