الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا ندري كيف يصحّ أن يستدلّ نصراني بحديث نبيٍّ لا يؤمن به!
وعلى أية حال؛ فإن صحّ عنده الاستدلال بالسنة النبوية، فحسبه أن يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع. رواه البخاري ومسلم.
وقد عقد القاضي عياض في كتاب: «الشفا بتعريف حقوق المصطفى» بابًا كاملًا: فيما ورد من صحيح الأخبار ومشهورها بعظيم قدره عند ربه ومنزلته، وما خصه به في الدارين من كرامته صلى الله عليه وسلم. فليراجعه من شاء، وانظر للفائدة الفتوى: 160793.
وأما الحديث الذي ذكره ليستدل به على تفضيل عيسى -عليه السلام-، فهو في الحقيقة يدل على فضله لا أفضليته، وإن كان فيه أفضلية، فهي لمريم وأمّها، فالحديث يدل على فضلهما على غيرهما من الأمّهات، وذلك أن الفضيلة الواردة في هذا الحديث إنما كان سببها دعوة المرأة الصالحة: امرأة عمران: إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:35-36]، ولم يكن لمريم ذرية إلا عيسى -عليه السلام-.
وقد أورد الوزير ابن هبيرة روايات هذا الحديث في «الإفصاح عن معاني الصحاح»، ثم قال: فيه: أن الله تعالى سلّم مريم وابنها منه، باستعاذة أمّ مريم، وهو قولها: {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}. اهـ.
وقال ابن الملقن في «الإعلام بفوائد عمدة الأحكام»: هذا يدل على أن الناجي من هذا الطعن إنما هو عيسى وحده؛ وذلك لخصوص دعوة أمّ مريم، حيث قالت: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، ثم إن طعنه ليس بضرر، ألا ترى أنه قد طعن كثيرًا من الأولياء والأنبياء ولم يضرهم ذلك. اهـ.
وقال المظهري في شرح المصابيح: إنما لم يتأثر من مسّه؛ لأن الله تعالى أعاذ مريم وأولادها من الشيطان تقبلًا لنذر حنّة أمّها، وأعاذ بها مريم وذريتها؛ لقوله تعالى حكاية عنها: {سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}.
فهذا لا يخلو إما أن يكون من الفضائل، أو الخصائص:
فإن كان من الفضائل، فنبينا صلى الله عليه وسلم أولى بذلك؛ لأنه أفضل من في السماوات والأرض.
وإن كان من الخصائص، فيجوز أن يختص عيسى -عليه السلام- بذلك، فإن الخاصية لا تقبل الاشتراك. اهـ.
ومن أهل العلم من أشار إلى سبب آخر لهذا التخصيص، وهو أن خلق عيسى -عليه السلام- لم يكن كبقية البشر، من منيِّ الرجال، وإنما كان من نفخة جبريل -عليه السلام-.
وقد أورد ابن هشام في السيرة النبوية رواية في حادثة شق النبي صلى الله عليه وسلم على يد اثنين من الملائكة، وفيه: استخرجا منه علقة سوداء فطرحاها.
وأورد السهيلي في شرح السيرة «الروض الأنف» رواية أخرى بلفظ: فأخرج معه مغمز الشيطان، وعلق الدم فطرحهما.
ثم قال: في هذا الحديث بيان لما أبهم في الأول؛ لأنه قال: "فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم"، فبين أن الذي التمس فيه هو الذي يغمزه الشيطان من كل مولود إلا عيسى ابن مريم وأمّه -عليهما السلام-؛ لقول أمّها حنة: {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}، فلم يصل إليه لذلك؛ ولأنه لم يخلق من منيّ الرجال، فأعيذ من مغمز، وإنما خلق من نفخة روح القدس، ولا يدل هذا على فضل عيسى -عليه السلام- على محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد نزع منه ذلك المغمز، وملئ قلبه حكمة وإيمانا، بعد أن غسله روح القدس بالثلج والبرد، وإنما كان ذلك المغمز فيه لموضع الشهوة المحركة للمني، والشهوات يحضرها الشياطين، لا سيما شهوة من ليس بمؤمن، فكان ذلك المغمز راجعًا إلى الأب، لا إلى الابن المطهّر صلى الله عليه وسلم. اهـ.
والله أعلم.