السؤال
هل يعد سيدنا أبو هريرة -رضي الله عنه- من الفقهاء، والمفتين؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
الصحابي الجليل أبو هريرة، وهو عبد الرحمن بن صخر الدوسي، في أرجح الأقوال في اسمه، كان -رضي الله عنه- من فقهاء الصحابة، ومن أئمة الفتوى، ويدل لذلك أمور:
أولًا: حرصه على سماع الحديث، وتفهمه، وليس حفظه وحسب، فقد روى البخاري في صحيحه أن أبا هريرة قال: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد ظَنَنْتُ -يا أبا هريرةَ- أن لا يسأَلني عن هذا الحديثِ أَحدٌ أوَّلَ منكَ؛ لِما رأيتُ من حِرصكَ على الحديثِ.
قال في عمدة القاري: فيه أن الحريص على الخير، والعلم، يبلغ بحرصه إلى أن يسأل عن غامض المسائل، ودقيق المعاني؛ لأن المسائل الظاهرة إلى الناس كافة، يستوي الناس في السؤال عنها؛ لاعتراضها في أفكارهم، وما غمض من المسائل، ولطف من المعاني، لا يسأل عنها إلا راسخ بحاث، يبعثه على ذلك الحرص، فيكون ذلك سببًا إلى إثارة فائدة، يكون له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. اهـ.
ثانيًا: ما رواه مالك في موطئه عن سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ, أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ: أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٌ مُحْرِمُينَ، فَاسْتَفْتَوْهُ فِي لَحْمِ صَيْدٍ، وَجَدُوا نَاسًا أَحِلَّةً يَأْكُلُونَهُ، فَأَفْتَيتهُمْ بِأَكْلِهِ، قَالَ: ثُمَّ قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: بِمَ أَفْتَيْتَهُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَفْتَيْتُهُمْ بِأَكْلِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ أَفْتَيْتَهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ لأَوْجَعْتُكَ. اهـ. فدل على أهليته للفتوى، فإن عمر -رضي الله عنه- لم ينكر عليه الإفتاء من أصله، ففيه دلالة على فقهه، وتأهله للفتوى، قال الدكتور عبد الكريم الخضير معلقًا على هذا الأثر: ومثل هذا يورد لبيان فقه أبي هريرة من وجوه: أولًا: إصابته الحق. الأمر الثاني: خوفه من الله -جل وعلا- أن يكون لم يصب، فأراد أن يتثبت مع ما في المسألة من هيبة عمر ... اهـ. وقد ذكر المباركفوري في تحفة الأحوذي كلامًا ماتعًا نقل فيه عن عدد من أئمة أهل العلم بيان فقه أبي هريرة -رضي الله عنه- لعلك تجد فيه الكفاية -إن شاء الله-، قال: قال صاحب السعاية في شرح الوقاية -وهو من العلماء الحنفية- ردًّا على من قال منهم: إن أبا هريرة كان غير فقيه، ما لفظه: كون أبي هريرة -رضي الله عنه- غير فقيه غير صحيح، بل الصحيح أنه من الفقهاء الذين كانوا يفتون في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ كما صرح به العلامة ابن الهمام في تحرير الأصول، والإمام ابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة. انتهى.
وفي بعض حواشي "نور الأنوار": أن أبا هريرة -رضي الله عنه- كان فقيهًا؛ صرح به العلامة ابن الهمام في "التحرير"، كيف وهو لا يعمل بفتوى غيره، وكان يفتي بزمن الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم-، وكان يعارض أجِلَّةَ الصحابة -رضي الله عنهم-، كابن عباس -رضي الله عنهما-؛ فإنه قال: إن عدة الحامل المتوفَّى عنها زوجها أبعد الأجلين، فرده أبو هريرة -رضي الله عنه-، وأفتى بأن عدتها وضع الحمل، كذا قيل. انتهى.
قلت: كان أبو هريرة -رضي الله عنه- من فقهاء الصحابة -رضي الله عنهم-، ومن كبار أئمة الفتوى، قال الحافظ الذهبي في "تذكرة الحفاظ": أبو هريرة الدوسي اليماني -رضي الله عنه- الحافظ الفقيه صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان من أوعية العلم، ومن كبار أئمة الفتوى، مع الجلالة، والعبادة، والتواضع. انتهى.
وقال الشيخ ابن القيم في "إعلام الموقعين": ثم قام بالفتوى بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بَرْكُ الإسلام، وعِصابة الإيمان، وعسكر القرآن، وجند الرحمن، أولئك أصحابه -صلى الله عليه وآله وسلم-، وكانوا بين مكثر منها ومقلٍّ ومتوسط، وكان المكثرون منهم سبعةً: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهم-، والمتوسطون منهم فيما روي عنهم من الفتيا: أبو بكر الصديق، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة -رضي الله عنهم- ..إلخ. فلا شك في أن أبا هريرة -رضي الله عنه-، كان فقيهًا من فقهاء الصحابة، ومن كبار أئمة الفتوى.
فإن قيل: قد قال إبراهيم النخعي أيضًا: إن أبا هريرة، لم يكن فقيهًا، والنخعي من فقهاء التابعين، قلت: قد نقم على إبراهيم النخعي لقوله: إن أبا هريرة لم يكن فقيهًا، قال الحافظ الذهبي في الميزان في ترجمته: وكان لا يحكم العربية، ربما لحن، ونقموا عليه قوله: لم يكن أبو هريرة فقيهًا. اهـ.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني