الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإنه لا يتساوى جمال أهل الجنة، بل يتفاوتون بقدر درجاتهم، ولكنهم كلهم يتصفون بالجمال، وسيظلون يزدادون حسنًا وجمالًا، فقد روى الشيخان من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يمتخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة الألنجوج عود الطيب، وأزواجهم الحور العين، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعًا.
وفي رواية لمسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أول زمرة يدخلون الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة، ثم هم بعد ذلك منازل.
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن في الجنة لسوقًا، يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال، فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنًا وجمالًا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالًا، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالًا، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالًا.
قال العراقي في طرح التثريب: ثم هم بعد ذلك منازل، أي: إن درجاتهم في إشراق اللون متفاوتة بحسب علو درجاتهم، وتفاوت فضلهم. اهـ.
وأما عن طولهم، وخلقتهم: فهم سواء في الطول، وكمال الأعضاء والخلقة، فقد ثبت في الأحاديث أن صورة الناس في الجنة على صورة أبيهم آدم، كما في حديث الصحيحين: فكل من يدخل الجنة على صورة آدم. وفي حديث الصحيحين: أن أخلاقهم على خلق رجل واحد.
وقال النووي في شرح مسلم: أنه روي في الصحيحين على خلق رجل واحد، وأن الرواة رواه بعضهم على خُلُق بضم الخاء واللام، ورواه بعضهم بفتح الخاء واسكان اللام، وكلاهما صحيح.
وذكر العيني في شرح البخاري: أنهم يكونون على صورة آدم في الحسن، والجمال، والطول.
وأما الأعمى: فإنه يرجع إليه بصره في الجنة، كما تدل لذلك الأدلة الواردة في رؤية المؤمنين لربهم، وهذا يعم البصراء والعمي، بل ذكر بعضهم أن العمي يرونه قبل البصراء، ولكن مستند تقديم العمي على غيرهم ضعيف، قد قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {القيامة: 22-23}، وقال عز وجل: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ {يونس:26}.
فالحسنى: هي الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله الكريم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة.
وفي الصحيحين من حديث جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوسًا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة، فقال: إنكم سترون ربكم عيانًا، كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته.
قال الإمام ابن كثير في تفسيره: وجوه يومئذ ناضرة ـ من النضارة، أي: حسنة بهية مشرقة مسرورة، إلى ربها ناظرة ـ أي: تراه عيانًا، كما رواه البخاري ـ رحمه الله ـ في صحيحه: إنكم سترون ربكم عيانًا، وقد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها، ولا منعها... اهـ.
وقال البربهاري في شرح السنة: واعلم أن أول من ينظر إلى الله تعالى في الجنة الأضراء، ثم الرجال، ثم النساء بأعين رؤوسهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته.... اهـ.
قال الراجحي: قوله: واعلم أن أول من ينظر إلى الله تعالى في الجنة الأضراء ـ الأضراء جمع ضرير، وهو الأعمى الذي ذهب بصره، فهذا أول من ينظر إلى الجنة؛ لأنه كان غير مبصر في الدنيا، فهو أول من ينظر إلى الله في الجنة، لكن جاء هذا في حديث ضعيف، والصواب أن الأضراء وغيرهم سواء، فالمؤمنون جميعًا ينظرون إلى الله، قوله: ثم النساء ـ فهذا الترتيب يحتاج إلى دليل، والله تعالى يقول: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {القيامة:22ـ 23}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم سترون ربكم ـ وهذا خطاب للرجال والنساء، فلا يقال: إن الأعمى ينظر أولًا، ثم الرجال، ثم النساء، وهم ينظرون إلى الله تعالى بأعين رؤوسهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، لا تضامون في رؤيته ـ رواه البخاري ومسلم، والأحاديث في رؤية الله تعالى بلغت حد التواتر، قال ابن القيم -رحمه الله-: رواها من الصحابة نحو ثلاثين صحابيًّا في الصحاح، والسنن، والمسانيد، وكذلك النصوص في القرآن الكريم صريحة في رؤية الله، قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {القيامة:22ـ 23} وقال: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ {المطففين:15}. اهـ.
وأما الدميم الصابر والوسيم الشاكر: فلكليهما أجر، والصبر والشكر من أسباب محبة الله، ورضوانه، ونيل الجزاء العظيم، كما قال الله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ {الزمر: 10}، وكما قال سبحانه وتعالى: وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ {آل عمران:146}، وقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ {إبراهيم: 7 }، وقال تعالى: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ {آل عمران:145}، وقال تعالى: وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ {الزمر:7}.
وفي الحديث عَنْ صُهَيْبٍ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ. رواه مسلم.
وقال ابن كثير عند تفسير آية الزمر: قال الأوزاعي: ليس يوزن لهم، ولا يكال، وإنما يغرف لهم غرفًا. انتهى.
وجاء في التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ـ هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن الصابر يوفى أجره، ولا يحاسب على أعماله، فهو من الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
الثاني: أن أجر الصابرين بغير حصر، بل أكثر من أن يحصر بعدد، أو وزن، وهذا قول الجمهور. اهـ
وقال السعدي في تفسيره: وهذا عام في جميع أنواع الصبر: الصبر على أقدار الله المؤلمة، فلا يتسخطها، والصبر عن معاصيه، فلا يرتكبها، والصبر على طاعته حتى يؤديها، فوعد الله الصابرين أجرهم بغير حساب، أي: بغير حد، ولا عد، ولا مقدار... انتهى.
والله أعلم.