الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فجواز طلاق الرجل لامرأته من غير حاجة محل خلاف بين أهل العلم، فقيل بحرمته، كما قيل بكراهته، قال ابن قدامة في (المغني): الطلاق من غير حاجة إليه مكروه. وقال القاضي: فيه روايتان:
إحداهما: أنه محرم؛ لأنه ضرر بنفسه، وزوجته، وإعدام للمصلحة الحاصلة لهما من غير حاجة إليه، فكان حرامًا، كإتلاف المال، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار».
والثانية: أنه مباح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق». وفي لفظ: «ما أحل الله شيئًا أبغض إليه من الطلاق». رواه أبو داود. وإنما يكون مبغضًا من غير حاجة إليه، وقد سماه النبي صلى الله عليه وسلم حلالًا، ولأنه مزيل للنكاح المشتمل على المصالح المندوب إليها، فيكون مكروهًا. اهـ.
ولذلك سبق أن أشرنا إلى أن الخلاف بين العلماء جارٍ في طلاق الرجل من غير حاجة، وفي سؤال المرأة الطلاق من غير بأس، وذلك في الفتوى رقم: 139246. ووجود هذا الخلاف فيه رد على من يقطع بتفريق الشريعة بين الرجل والمرأة في حكم الطلاق من غير حاجة.
ثم إننا نشدد على أن الأصل في الطلاق من غير حاجة هو النهي عنه؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: نفس الطلاق إذا لم تدع إليه حاجة منهي عنه باتفاق العلماء، إما نهي تحريم أو نهي تنزيه. وما كان مباحًا للحاجة قدر بقدر الحاجة. اهـ.
وقال أيضًا: الطلاق في الأصل مما يبغضه الله، وهو أبغض الحلال إلى الله، وإنما أباح منه ما يحتاج إليه الناس، كما تباح المحرمات للحاجة. اهـ.
وقال أيضًا: الأصل في الطلاق الحظر، وإنما أبيح منه قدر الحاجة، كما ثبت في الصحيح عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن إبليس ينصب عرشه على البحر، ويبعث سراياه، فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة، فيأتيه الشيطان فيقول: ما زلت به حتى فعل كذا. حتى يأتيه الشيطان فيقول: ما زلت به حتى فرّقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه، ويقول: "أنت أنت"، ويلتزمه"، وقد قال تعالى في ذم السحر: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه}. وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المختلعات، والمنتزعات هن المنافقات"، وفي السنن أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة". اهـ.
وقال ابن عابدين في حاشيته: الطلاق الأصل فيه الحظر، بمعنى: أنه محظور إلا لعارض يبيحه، وهو معنى قولهم: الأصل فيه الحظر، والإباحة للحاجة إلى الخلاص. فإذا كان بلا سبب أصلًا لم يكن فيه حاجة إلى الخلاص، بل يكون حمقًا، وسفاهة رأي، ومجرد كفران النعمة، وإخلاص الإيذاء بها، وبأهلها، وأولادها. ولهذا قالوا: إن سببه الحاجة إلى الخلاص عند تباين الأخلاق، وعروض البغضاء الموجبة عدم إقامة حدود الله تعالى ... فحيث تجرد عن الحاجة المبيحة له شرعًا يبقى على أصله من الحظر؛ ولهذا قال تعالى: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا} [النساء: 34] أي: لا تطلبوا الفراق. اهـ.
وقال الشيخ/ ابن عثيمين في لقاء الباب المفتوح: الأصل في الطلاق أنه مكروه، ولو قيل: الأصل أنه محرم، لم يبعد. اهـ.
وقال الشيخ/ سيد سابق في (فقه السنة): اختلفت آراء الفقهاء في حكم الطلاق، والأصح من هذه الآراء رأي الذين ذهبوا إلى حظره إلا لحاجة. اهـ.
وقال الأستاذ الدكتور/ عبد الكريم زيدان في (المفصل في أحكام المرأة 7/ 355): الراجح قول من قال: الأصل في الطلاق الحظر، ولا يباح إلا للحاجة المعتبرة شرعًا. اهـ.
وقال الأستاذ الدكتور/ وهبة الزحيلي في (الفقه الإسلامي وأدلته): وهذا هو الراجح؛ لاتفاقه مع مقاصد الشريعة، ولمخاطر الطلاق المتعددة. اهـ.
وليس المقصود في هذا المقام هو الترجيح، وإنما المقصود هو التنبيه على أن كلام أهل العلم حافل بذكر الخلاف في هذه المسألة، وعلى ترجيح طائفة منهم منع الرجل من طلاق امرأته إلا لحاجة معتبرة تُدرأ بها أعلى المفسدتين بتحمل أدناهما.
وأما وعيد الزوج الذي يطلق امرأته بغير سبب: فقد روي فيه أحاديث، ولكنها ليست بالقوية؛ جاء في (المبسوط) للسرخسي: إيقاع الطلاق مباح، وإن كان مبغضًا في الأصل عند عامة العلماء، ومن الناس من يقول: لا يباح إيقاع الطلاق إلا عند الضرورة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله كل ذواق مطلاق»، وقال صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة اختلعت من زوجها من نشوز، فعليها لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين». وقد روي مثله في الرجل يخلع امرأته. ولأن فيه كفران النعمة؛ فإن النكاح نعمة من الله تعالى على عباده؛ قال الله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا} [الروم: 21]، وقال الله تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء} [آل عمران: 14] الآية. وكفران النعمة حرام، وهو رفع النكاح المسنون فلا يحل إلا عند الضرورة ... اهـ.
وجاء في (تبيين الحقائق) للزيلعي: لم يقل أحد إنه مكروه إذا كان لحاجة. وفي النهاية للسغناقي: أن إيقاع الطلاق مباح، ومن الناس من يقول: لا يباح إلا للضرورة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «لعن الله كل ذواق مطلاق». وقال عليه الصلاة والسلام: «أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق». وقال عليه الصلاة والسلام: «تزوجوا ولا تطلقوا». وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تطلقوا النساء إلا من ريبة؛ إن الله لا يحب الذواقين، ولا الذواقات» ... اهـ.
وقال القاري في (مرقاة المفاتيح): ما روي «لعن الله كل ذواق مطلاق» محمله الطلاق لغير حاجة، بدليل ما روي من قوله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة اختلعت من زوجها بغير نشوز، فعليها لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين». ولا يخفى أن كلامهم فيما سيأتي من التعليل يصرح بأنه محظور لما فيه من كفران نعمة النكاح، وللحديثين المذكورين، وغيرهما، وإنما أبيح للحاجة، والحاجة هي الخلاص عند تباين الأخلاق، وعروض البغضاء الموجبة عدم إقامة حدود الله، فشرعه رحمة منه -سبحانه- فبين الحكمين تدافع، والأصح حظره إلا لحاجة للأدلة المذكورة، ويحمل لفظ المباح على ما أبيح في بعض الأوقات، أعني أوقات تحقق الحاجة المبيحة، وهو ظاهر في رواية لأبي داود «ما أحل الله شيئًا أبغض إليه من الطلاق» ... اهـ.
وقال الولي الدهلوي في (حجة الله البالغة): الإكثار من الطلاق، وجريان الرسم بعدم المبالاة به مفاسد كثيرة، وذلك أن ناسًا ينقادون لشهوة الفرج، ولا يقصدون إقامة تدبير المنزل، ولا التعاون في الارتفاقات، ولا تحصين الفرج، وإنما مطمح أبصارهم التلذذ بالنساء، وذوق لذة كل امرأة، فيهيجهم ذلك إلى أن يكثروا الطلاق والنكاح، ولا فرق بينهم وبين الزناة من جهة ما يرجع إلى نفوسهم، وإن تميزوا عنهم بإقامة سنة النكاح، والموافقة لسياسة المدينة، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الذواقين، والذواقات". اهـ.
وأما حمل جزاء الزوج الذي يطلق من غير حاجة على جزاء المرأة التي تسأل الطلاق من غير حاجة، فلا يصح الجزم به؛ لأن العقوبة والوعيد موقوفان على النص، ولا يثبتان بالقياس.
وحديث: النساء شقائق الرجال. إنما يفيد في صحة قياس الأحكام الشرعية لا الجزاء، والعقوبة، وراجع للفائدة الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 6875، 118315، 28554.
وأما حديث ثوبان مرفوعًا: أيما امرأة سألت زوجها طلاقًا في غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة. فلم نقف على تضعيف أحد من أهل العلم له، قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): رواه أصحاب السنن، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان. اهـ.
وقد حسنه الترمذي، وصححه ابن الجارود، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. اهـ. ولم يتعقبه الذهبي. وصححه من المعاصرين: الألباني، والأرناؤوط. وأورده يوسف الداودي في كتابه (الجامع الصحيح فيما كان على شرط الشيخين أو أحدهما ولم يخرجاه).
وأما السؤال عن سبب ورود الوعيد في حق المرأة على طلب الطلاق من غير بأس، وعدم ورود مثله في حق الرجل الذي يطلق من غير حاجة: فلم نطلع في جوابه على كلام لأحد من أهل العلم بخصوص توجيه ذلك، والذي نراه -والعلم عند الله تعالى- أن ذلك يترتب على أسباب كون الطلاق بيد الرجل وحده دون المرأة، وهذا يعود لعدة أسباب، منها: كونه المتضرر الأول من الطلاق من الناحية المادية، فهو الذي يجب عليه المهر، والمتعة، والنفقة لمطلقته حتى انتهاء عدتها، وهو الذي يضيع عليه ما أنفقه في سبيل إتمام هذا الزواج، مع حاجته إلى مال آخر للزواج بأخرى. وهذا يجعله أكثر ضبطًا لنفسه من المرأة التي قد لا يكلفها رمي يمين الطلاق شيئًا. هذا مع ما يعرف عند أكثر النساء من سرعة الانفعال، وسيطرة العاطفة عليهن، بخلاف كثير من الرجال في شأن التريث، والتروي، والتعقل في إيقاع الطلاق، كما أشرنا إليه في الفتوى رقم: 62468.
وإذا تقرر ذلك؛ فلا يبعد أن يقال: إن حالة الرجل تقتضي أنه لا يحتاج إلى تأكيد الوعيد، والترهيب الشديد من إيقاع الطلاق من غير حاجة، لما هو قائم أصلًا في حقه من الموانع، بخلاف المرأة فإنها محتاجة إلى ذلك لزجرها، ومنعها من طلب مفارقة زوجها، مع احتمال عشرته، وإمكان البقاء معه؛ حفاظًا على الأسرة من الضياع، والتفكك، ومراعاة لمصلحة الأصهار، والأولاد إن وجدوا.
وأمر آخر يمكن ذكره ههنا، وهو أن الرجل إذا شعر بضيق مع امرأته من غير تقصير منها يدعو لطلاقها، فأمامه فرصة الزواج بأخرى، مما يعينه على إمساك امرأته الأولى، وعدم طلاقها.
وأما المرأة فليس أمامها إلا الصبر مع زوجها إذا أصابها مثل ذلك، وهذا قد يحملها على تعجل طلب الطلاق، مع إمكانية تحسن العشرة بينهما، واستقامة حالهما، فجاء هذا الوعيد ليمنعها من طلب الطلاق إلا إذا وجدت أسبابه، وتوفرت دواعيه.
والله أعلم.