السؤال
عندما كنت في سن الدراسة كنت أدرس وأعمل في نفس الوقت في منزل عند سوريين، وبعدها تركت العمل، والتزمت ـ والحمد لله ـ لكنني تذكرت أنني كنت أحيانًا آكل وأشرب في بيتهم قبل أن أقوم بعملي، وأنظف المنزل، ولم أكن أستأذن منهم أكثر من مرة، ولا أتذكر هل سمحوا لي أم لا؟ وأتذكر أن صاحبة المنزل في إحدى المرات قالت لي: هل أفطرت؟ فإذا كنت لم تفطري، فافتحي الثلاجة، وكلي.. فهل أنا آثمة؟ وهل يجب عليّ التحلل منها؟ ولا أستطيع الذهاب إليها مرة أخرى بسبب حدوث مشاكل بينها وبين أحد أقاربي، وهي من أهل البدع، ولا أعلم كيف ستتصرف معي، وإذا لم أستطع أن أتحلل منها، فهل من مخرج؟ أشعر أنني سأدخل النار بسبب هذا الأمر، وبسبب عدم قدرتي على التحلل منها بأي شكل، ويأتيني إحباط شديد جدًّا بسبب كل ما فعلته قبل التزامي من التحدث عن أشخاص، وغيبة كثيرة، وربما خضت في عرض أحد، ولا أستطيع الوصول إليه... وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن المفلس أصابني بإحباط شديد بأنني مهما فعلت من الطاعات فسألقى في النار في النهاية؛ لأن عليّ بعض الحقوق لكثير من الناس، فماذا أفعل؟ وهل هذه هي النهاية؟ وجزاكم الله خيرًا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا يجوز الانتفاع بشيء من مال الغير إلا بإذنه، فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في أيام التشريق فقال: إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقونه.. ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، إنه لا يحل مال امرئ إلا بطيب نفس منه. رواه أحمد، وحسنه الألباني.
وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه. رواه مسلم.
إلا أن الإذن العرفي ينزل منزلة الإذن اللفظي، قال ابن قدامة: الإذن العرفي يقوم مقام الإذن الحقيقي. اهـ.
والعرف جار بأن من يخدم في البيوت، فإن صاحب البيت لا يمانع من أكله من طعامه، ويأذن له في ذلك عادة.
وعليه؛ فإن أكلك من طعام أصحاب المنزل المذكور لا شيء فيه، وهو حاصل بإذنهم عرفًا، بحسب المتبادر، ويؤكد هذا أن صاحبة المنزل لما عرضت عليك الأكل وأخبرتها بأنك قد أكلت لم تعترض، وبالنسبة لأي حقوق مالية أخرى ـ إن كانت عليك ـ فيجب أن ترديها لأصحابها، أو تستحليهم منها إن كان ذلك ممكنًا، فإن لم يمكن ذلك لعدم إمكانية الوصول إليهم ـ مثلًا ـ فلك أن تتصدقي بها عنهم مع ضمانها، فإن وجدوا فيما بعد خيرتهم بين إمضاء الصدقة ويكون أجرها لهم، وبين رد الحق، ويكون أجر الصدقة لك، قال ابن القاسم في حاشيته على الروض المربع: الرهون، والودائع، ونحوهما من سائر الأمانات، والأموال المحرمة، كالسرقة، والنهب، إذا جهل أربابها دفعها للحاكم، أو تصدق بها عن ربها، بشرط ضمانها له؛ لأنه في الصدقة بها عنه جمع بين مصلحة القابض بتبرئة ذمته، ومصلحة المالك بتحصيل الثواب له. اهـ.
وفي فتاوى اللجنة الدائمة: يجب رد المال المقترض إلى صاحبه إن كان حيًّا، ويمكن السؤال عنه، وعن مقره عن طريق أقاربه، وإن تعذر ذلك فيسلم إلى ورثته إن وجدوا، وإن تعذر ذلك فيتصدق به عنه، ثم إن لقيته بعد ذلك أخبره بما فعلت، فإن رضي، وإلا ادفع إليه حقه، ويكون أجر المال المتصدق به لك. اهـ.
وبخصوص الغيبة، وما شاكلها من الحقوق المعنوية التي لا تعلمين أصحابها، أو لا يمكنك الوصول إليهم، أو كان طلب التحلل منهم سيؤدي إلى مفسدة، وكراهية، وحقد، فإنه يكتفي بالإكثار من الدعاء لهم بظهر الغيب، وبذكر محاسنهم في المجالس التي ذكرتهم فيها بسوء، فقد قيد العلماء وجوب التحلل بما إذا لم يؤد إلى مفسدة، وانظر الفتاوى التالية أرقامها: 148501، 121422، 66515، 215656.
وأما قولك: مهما فعلت من الطاعات سألقى في النار في النهاية؛ لأن عليّ بعض الحقوق لكثير من الناس ـ فليس بصحيح؛ لأن من كانت عليه حقوق لم يؤدها لا يلزم منه أن يلقى في النار، بل قد يتجاوز الله عنه، ويُرضي خصمه يوم القيامة، ويعطيه من عنده حتى يتنازل عن حقه, ويعفو عن ظالمه، وبذلك تتجلى رحمة الله تعالى، وكمال عدله, وانظري الفتوى رقم: 247834.
وإذا لم يحصل هذا الأمر، فإنه لا يلزم أيضًا أن يدخل من عليه حقوق العباد النار؛ إذ قد يكون لديه من الحسنات ما هو أكثر من حقوق من ظلمهم، فيعطون من حسناته، ويبقى له ما يدخل به الجنة، ولو كان ما بقي له بعد حسابه حسنة واحدة، فإنه يدخل بها الجنة وينجو من النار، روى الطبري بسنده في تفسيره عن ابن مسعود قال: يحاسب الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار، ثم قرأ قول الله: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ {الأعراف: 9} ثم قال: إن الميزان يخف بمثقال حبة، ويرجح. اهـ.
فينبغي الاستغفار لمن اغتبتهم، مع الإكثار من صالح الأعمال، وعدم القنوط من رحمة الله عز وجل، ونسأل الله لنا، ولك النجاة يوم القيامة.
والله أعلم.