السؤال
قرأت في أديان أخرى أن هناك ما يعرف: بتوارث الخطية ـ وهذا بديهيًا لا يتفق ومقتضى العدل الإلهي, والسؤال هو: لماذا الإنسان كثير الخطأ في الحياة؟ وهل هذا لكونه من بني آدم؟ أم أن هذه طبيعة الإنسان التي خلقها الله؟
قرأت في أديان أخرى أن هناك ما يعرف: بتوارث الخطية ـ وهذا بديهيًا لا يتفق ومقتضى العدل الإلهي, والسؤال هو: لماذا الإنسان كثير الخطأ في الحياة؟ وهل هذا لكونه من بني آدم؟ أم أن هذه طبيعة الإنسان التي خلقها الله؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن تتبع وصف القرآن للإنسان من حيث هو إنسان، وجده ذمًّا في الأعم الغالب، كالوصف بالظلم، والجهل، والكفر، والعجلة، والشح، والهلع، والضعف، وغير ذلك من صفات النقص، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الإنسان هو كما وصفه الله بقوله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ـ فأخبر أنه عند الضراء بعد السراء ييأس من زوالها في المستقبل، ويكفر بما أنعم الله به عليه قبلها، وعند النعماء بعد الضراء يأمن من عود الضراء في المستقبل، وينسي ما كان فيه بقوله: ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ـ على غيره يفخر عليهم بنعمة الله عليه، وقال تعالى: إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ـ فأخبر أنه جزوع عند الشر، لا يصبر عليه، منوع عند الخير، يبخل به، وقال تعالى: إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ـ وقال تعالى: إِنَّ الْأِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ـ وقال تعالى: إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ـ وقال تعالى: وَكَانَ الأِنْسَانُ قَتُوراً ـ وقال: وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ ـ وقال تعالى: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً... اهـ.
وقال ابن القيم: الخطاب للإنسان من حيث هو إنسان على طريقة القرآن في تناول الذم له من حيث هو إنسان، كقوله: وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً ـ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراًـ إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ـ وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ـ إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌـ ونظائره كثيرة، فالإنسان من حيث هو عار عن كل خير من العلم النافع، والعمل الصالح، وإنما الله سبحانه هو الذي يكمله بذلك، ويعطيه إياه، وليس له ذلك من نفسه، بل ليس له من نفسه إلا الجهل المضاد للعلم، والظلم المضاد للعدل، وكل علم وعدل وخير فيه فمن ربه، لا من نفسه، فإلهاء التكاثر طبيعته وسجيته التي هي له من نفسه، ولا خروج له عن ذلك إلا بتزكية الله له، وجعله مريدًا للآخرة، مؤثرًا لها على التكاثر بالدنيا، فإن أعطاه ذلك، وإلا فهو مُلْتَهٍ بالتكاثر في الدنيا ولا بد. اهـ.
ولأجل هذه الخلقة التي خلق عليها الإنسان كثرت ذنوبه ومعاصيه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون. رواه الترمذي، وابن ماجه، وأحمد، وحسنه الألباني.
قال المناوي في فيض القدير: يعني أن العبد لا بد أن يجري عليه ما سبق به القدر، فكأنه قال: لا بد لك من فعل الذنوب والخطايا؛ لأن ذلك مكتوب عليك، فأحدث توبة، فإنه لا يؤتى العبد من فعل المعصية، وإن عظمت، وإنما يؤتى من ترك التوبة وتأخيرها. اهـ.
وقال الصنعاني في سبل السلام: الحديث دال على أنه لا يخلو من الخطيئة إنسان؛ لما جبل عليه هذا النوع من الضعف، وعدم الانقياد لمولاه، في فعل ما إليه دعاه، وترك ما عنه نهاه، ولكنه تعالى بلطفه فتح باب التوبة لعباده، وأخبر أنه خير الخطائين التوابون، المكثرون للتوبة على قدر كثرة الخطأ. اهـ.
وقال العثيمين في شرح رياض الصالحين: الإنسان مهما بلغ من التقوى، فإنه لا بد أن يخطئ، كما جاء في الحديث عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون ـ وقال عليه الصلاة والسلام: لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم. اهـ.
ومما يدل على ذلك أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتنا توابًا نسيًا، إذا ذُكِّر ذَكَر. رواه الطبراني، وصححه الألباني.
قال المناوي: مفتَّنًا ـ أي ممتحنًا يمتحنه الله بالبلاء، والذنوب مرة بعد أخرى، والمفتن الممتحن الذي فتن كثيرًا، توابًا نسيًا إذا ذكر ذكر ـ أي: يتوب، ثم ينسى فيعود، ثم يتذكر فيتوب، هكذا يقال: فتنه يفتنه إذا امتحنه. اهـ.
وعن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم. رواه البخاري ومسلم.
قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام: قوله: إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ـ دليل على أن الإنسان لا يعرى من ذنب وتقصير، كما قال عليه الصلاة والسلام: استقيموا، ولن تحصوا ـ وفي الحديث: كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون ـ وربما أخذوا ذلك من حيث الأمر بهذا القول مطلقًا من غير تقييد، وتخصيص بحالة، فلو كان ثمة حالة لا يكون فيها ظلم ولا تقصير لما كان هذا الإخبار مطابقًا للواقع.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الذنب للعبد كأنه أمر حتم، فالكيس هو الذي لا يزال يأتي من الحسنات بما يمحو السيئات. اهـ.
وقال أيضًا: في قوله تعالى: وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ـ فوائد جليلة: منها: أن أمره لجميع المؤمنين بالتوبة في هذا السياق تنبيه على أنه لا يخلو مؤمن من بعض هذه الذنوب التي هي: ترك غض البصر، وحفظ الفرج، وترك إبداء الزينة، وما يتبع ذلك، فمستقل ومستكثر، كما في الحديث: ما من أحد من بني آدم إلا أخطأ، أو هم بخطيئة، إلا يحيى بن زكريا ـ وذلك لا يكون إلا عن نظر، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون ـ وفي الصحيح عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا ولا أبالي، فاستغفروني أغفر لكم ـ وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: ما رأيت شيئًا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، وزنا اللسان النطق. اهـ.
وقال ابن القيم في طريق الهجرتين: الحكمة الإلهية اقتضت تركيب الشهوة والغضب في الإنسان، أو بعضها، ولو لم يخلق فيه هذه الدواعي لم يكن إِنسانًا، بل ملكًا، فالذنب من موجبات البَشرية، كما أن النسيان من موجباتها. ولا يتم الابتلاءُ والاختبار إلا بذلك. اهـ.
وقال في مفتاح دار السعادة: هاتان القوتان فيه بمنزلة صفاته الذاتية لا ينفك عنهما، وبهما وقعت المحنة والابتلاء، وعرض لنيل الدرجات العلى، واللحاق بالرفيق الأعلى، والهبوط الى أسفل سافلين، فهاتان القوتان لا يدعان العبد حتى ينيلانه منازل الأبرار، أو يضعانه تحت أقدام الأشرار، ولن يجعل الله من شهوته مصروفة إلى ما أعد له في دار النعيم، وغضبه حمية لله، ولكتابه، ولرسوله، ولدينه، كمن جعل شهوته مصروفة في هواه، وأمانيه العاجلة وغضبه مقصور على حظه، ولو انتهكت محارم الله وحدوده، وعطلت شرائعه وسننه، بعد أن يكون هو ملحوظًا بعين الاحترام، والتعظيم، والتوقير، ونفوذ الكلمة، وهذه حال أكثر الرؤساء ـ أعاذنا الله منها ـ فلن يجعل الله هذين الصنفين في دار واحدة، فهذا صعد بشهوته وغضبه إلى أعلى عليين، وهذا هوى بهما إلى أسفل سافلين، والمقصود أن تركيب الإنسان على هذا الوجه هو غاية الحكمة، ولا بد أن يقتضي كل واحد من القوتين أثره، فلا بد من وقوع الذنب والمخالفات والمعاصي، ولا بد من ترتب آثار هاتين القوتين عليهما، ولو لم يخلقا في الإنسان لم يكن إنسانًا، بل كان ملكًا، فالترتب من موجبات الإنسانية. اهـ.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني