السؤال
قتل بالرصاص في تونس أحد المعارضين السياسيين, وقيل: إنه تم ذلك عن طريق أحد المتشددين الذين استندوا لفتوى إمام في هذا البلد تهدر دم هذا المقتول, وإذا اعتبرنا هذا الكلام صحيحًا فهل حادثة القتل شرعية?
قتل بالرصاص في تونس أحد المعارضين السياسيين, وقيل: إنه تم ذلك عن طريق أحد المتشددين الذين استندوا لفتوى إمام في هذا البلد تهدر دم هذا المقتول, وإذا اعتبرنا هذا الكلام صحيحًا فهل حادثة القتل شرعية?
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإنه ليس بوسعنا الكلام في مسألة معينة لم نطلع على حقيقة خبرها.
وننبه إلى أن قتل النفس بغير حق من أعظم الذنوب وأشنعها عند الله تعالى، كما جاء في نصوص الكتاب والسنة، قال الله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا {النساء:93}،
وقال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا* إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا* وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا {الفرقان: 68 - 71},
وقال الله تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ {الأنعام: 151}, وقال النبي صلى الله عليه وسلم: اجتنبوا السبع الموبقات... وعدَّ منها: قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق. متفق عليه.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء. وروى أبو داود عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يزال المؤمن معنقًا - ومعنى معنقًا: خفيف الظهر سريع السير - صالحًا ما لم يصب دمًا حرامًا, فإذا أصاب دمًا حرامًا بلح - أي أعيا وانقطع -.
وقد قدمنا الأسباب المبيحة للقتل في الفتوى رقم: 144075.
ثم على تقدير استحقاق المرء للقتل، فإن إقامة الحد عليه ليس من حق أي أحد, إلا السلطان أو نائبه - كالقاضي - وهذا ما نص عليه أهل العلم.
قال الإمام النووي - رحمه الله - في المجموع: أما الأحكام فإنه متى وجب حد الزنا أو السرقة أو الشرب لم يجز استيفاؤه إلا بأمر الإمام، أو بأمر من فوض إليه الإمام النظر في الأمر بإقامة الحد؛ لأن الحدود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي زمن الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - لم تستوف إلا بإذنهم، ولأن استيفاءها للإمام.
وقال ابن قدامة في المغني: إذا لم يكن أمير الجيش الإمام أو أمير إقليم فليس له إقامة الحد ... ويؤخر حتى يأتي الإمام؛ لأن إقامة الحدود إليه. اهـ
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة بالمملكة العربية السعودية: ولا يقيم الحدود إلا الحاكم المسلم, أو من يقوم مقام الحاكم، ولا يجوز لأفراد المسلمين أن يقيموا الحدود؛ لما يلزم على ذلك من الفوضى والفتنة. اهـ .
وجاء في الموسوعة الفقهية: اتفق الفقهاء على أنه لا يقيم الحد إلا الإمام أو نائبه، وذلك لمصلحة العباد، وهي صيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم, والإمام قادر على الإقامة لشوكته ومنعته، وانقياد الرعية له قهرًا وجبرًا، كما أن تهمة الميل والمحاباة والتواني عن الإقامة منتفية في حقه، فيقيمها على وجهه, فيحصل الغرض المشروع بيقين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحدود، وكذا خلفاؤه من بعده. اهـ.
وجاء في موضع آخر منها: اتفق الفقهاء على أنه إذا ارتد مسلم فقد أهدر دمه، لكن قتله للإمام أو نائبه، ومن قتله من المسلمين عزر فقط؛ لأنه افتات على حق الإمام؛ لأن إقامة الحد له. اهـ.
وإذا عرف خطر قتل النفس, وأنه لا يقوم به في حال شرعيته إلا السلطان أو نائبه، علم من هذا أن مجرد فتوى لا تبيح دماء الناس, ولا يبرأ بها القاتل بين يدي الله تعالى.
وينبغي أن ننبه كذلك إلى أن الإفتاء عظيم الخطر؛ لأن المفتي وارث الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - وموقِّع عن الله، فيجب عليه التحري فيما يقوله, قال ابن المنكدر: (العالم بين الله تعالى وخلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم)؛ ولذا كان كثير من فضلاء السلف يتوقف عن الفتيا في أشياء كثيرة معروفة، فقد قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: "أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول"
وروى الآجري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: من فاته لا أدري أصيبت مقاتله.
وكان الإمام مالك بن أنس - رحمه الله - يقول: من أجاب في مسألة فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف خلاصه؟ ثم يجيب. وسئل عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف.
وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: لولا الفزع من الله تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت! يكون لهم المهنأ وعلي الوزر.
وسئل الشافعي - رحمه الله - عن مسألة فلم يجب، فقيل له: فقال: حتى أدري أن الفضل في السكوت أو الجواب.
وعن الأثرم قال: سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول: لا أدري، وذلك فيما عرف من الأقاويل فيه.
وقال الخطيب: قلَّ من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها، إلا قلَّ توفيقه، واضطرب في أموره، وإن كان كارهًا لذلك, غير مؤثر له ما وجد عنه مندوحة، وأحال الأمر فيه على غيره، كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في جوابه أغلب.
وأقاويلهم في هذا مستفيضة, وخوفهم من هذا المنصب كبير؛ لأن الفتيا من غير متأهل، والقول على الله بغير علم، منكر عظيم وإثم مبين، ووقوع في سبل الشيطان الرجيم، قال سبحانه: وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [البقرة:168-169]
والقول على الله بغير علم قرين الشرك؛ لأن الله يقول: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ {الأعراف:33}،
قال ابن القيم في مدراج السالكين: وأما القول على الله بلا علم فهو أشد هذه المحرمات تحريمًا وأعظمها إثمًا؛ ولهذا ذكر في المرتبة الرابعة من المحرمات التي اتفقت عليها الشرائع والأديان، فقال: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) فهذا أعظم المحرمات عند الله, وأشدها إثمًا، فإنه يتضمن الكذب على الله, ونسبته إلى ما لا يليق به، وتغيير دينه وتبديله، ونفي ما أثبته, وإثبات ما نفاه، وتحقيق ما أبطله, وإبطال ما حققه, وعداوة من والاه, وموالاة من عاداه, وحب ما أبغضه، وبغض ما أحبه، ووصفه بما لا يليق في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله، فليس في أجناس المحرمات أعظم عند الله منه, ولا أشد منه, ولا أشد إثمًا، وهو أصل الشرك والكفر، وعليه أسست البدع والضلالات، فكل بدعة مضلة في الدين أساسها القول على الله بلا علم. انتهى.
وخطر الفتوى بغير علم لا يقتصر على صاحبه, بل يتعداه إلى المجتمع, فيفسده ويضله عن دين الله تعالى، وينشر فيه البدع والغلو والانحراف, وهنا يكون الخطر أعظم, والإثم أكبر؛ لأن المعصية المتعدية أعظم من المعصية القاصرة, فقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد, ولكن يقبض العلم بموت العلماء؛ حتى إذا لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.
ولا بد من تعاون المجتمع المسلم وسعيه في تفادي هذا الخطر بإيجاد نخب من طلبة العلم في كل مكان يستطيعون إسعاف المستفتين, وتعليمهم ما يحتاجون له من أمورهم الدينية، ويغنونهم عن استفتاء الجهال.
ومن استفتى أحدًا فأفتاه بغير علم يكون إثمه على من أفتاه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه. رواه أبوداود وابن ماجه وغيرهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني