الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالتلذذ بالسجود لله، والوقوف بين يديه، مرتبة عظيمة، لا يصل إليها إلا من وفقه الله، ومما يعين على ذلك أن يستشعر العبد أنه في سجوده يكون في أقرب الأحوال إلى الله، قال صلى الله عليه وسلم: أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد، فأكثروا الدعاء .أخرجه مسلم.
ولينظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وكيف يطيل السجود، ويكثر الدعاء؛ أخرج مسلم عن حذيفة، أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ البقرة، و النساء، و آل عمران في ركعة واحدة، يقرأ مترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع، فجعل يقول: «سبحان ربي العظيم»، فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: «سمع الله لمن حمده»، ثم قام طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد، فقال: «سبحان ربي الأعلى»، فكان سجوده قريبا من قيامه. وقد كانت الصلاة قرة عينه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم: فالصلاة قرة عيون المحبين في هذه الدنيا لما فيها من مناجاة من لا تقر العيون، ولا تطمئن القلوب، ولا تسكن النفوس إلا إليه، والتنعم بذكره، والتذلل والخضوع له، والقرب منه، ولا سيما في حال السجود، وتلك الحال أقرب ما يكون العبد من ربه فيها. ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: يا بلال أرحنا بالصلاة. فأعلم بذلك أن راحته صلى الله عليه وسلم في الصلاة كما أخبر أن قرة عينه فيها. فأين هذا من قول القائل: نصلي ونستريح من الصلاة! فالمحب راحته وقرة عينه في الصلاة، والغافل المعرض ليس له نصيب من ذلك، بل الصلاة كبيرة شاقة عليه إذا قام فيها كأنه على الجمر حتى يتخلص منها، وأحب الصلاة إليه أعجلها وأسرعها، فإنه ليس له قرة عين فيها، ولا لقلبه راحة بها، والعبد إذا قرت عينه بشيء واستراح قلبه به، فأشق ما عليه مفارقته، والمتكلف الفارغ القلب من الله والدار الآخرة المبتلى بمحبة الدنيا أشق ما عليه الصلاة وأكره ما إليه طولها مع تفرغه وصحته وعدم اشتغاله. اهـ.
والاطلاع على أحوال السلف يحض العبد على الاقتداء بهم، ومن ذلك ما جاء عن علي بن فضيل، قال: رأيت سفيان الثوري ساجدا حول البيت, فطفت سبعة أسابيع قبل أن يرفع رأسه. اهـ. وقال ابن وهب: رأيت الثوري في الحرم بعد المغرب صلى، ثم سجد سجدة، فلم يرفع حتى نودي بالعشاء. اهـ.
ويدعو المسلم ربه أن يرزقه حسن الصلاة، وأن يحبب إليه السجود، فلا سبيل للعبد إلى مرضاة الله إلا بمعونة الله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: تأملت أنفع الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أهـ.
والمقامات العالية من الخضوع لله والإكثار من دعائه لا تنال إلا بعد مجاهدة النفس وترويضها.
قال ثابت البناني: كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة. اهـ.
والذنوب تقسي القلب، وتحول بينه وبين الخشوع والتلذذ بالطاعة، فالبعد عنها متعين.
أما مدة السجود فأقلها هو بقدر ما يقول " سبحان ربي الأعلى "
قال الحجاوي: والطمأنينة في هذه الأفعال بقدر الذكر الواجب لذاكره، ولناسيه بقدر أدنى سكون. اهـ.
وأدنى الكمال قولها ثلاث مرات.
جاء في الإقناع وشرحه: (ويقول) في ركوعه: (سبحان ربي العظيم) لما روى حذيفة قال: «صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى» رواه الجماعة إلا البخاري. وعن عقبة بن عامر قال «لما نزلت {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة: 74] قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اجعلوها في ركوعكم، فلما نزلت {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1] قال: اجعلوها في سجودكم» رواه أحمد وأبو داود. والواجب مرة كما يأتي، والسنة (ثلاثا، وهو أدنى الكمال) لما روى أبو داود وابن ماجه عن ابن مسعود أن النبي قال «إذا ركع أحدكم فليقل سبحان ربي العظيم ثلاث مرات وذلك أدناه » وأعلاه أي: الكمال في حق إمام إلى عشر تسبيحات، لما روي عن أنس " أن عمر بن عبد العزيز كان يصلي كصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فحزروا ذلك بعشر تسبيحات ". وقال أحمد " جاء عن الحسن أن التسبيح التام سبع، والوسط خمس، وأدناه ثلاث (و) (أعلاه) التسبيح (في حق إمام إلى عشر ومنفرد: العرف) وقيل: ما لم يخف سهوا. وقيل: بقدر قيامه وقيل: سبع (وكذا سبحان ربي الأعلى في سجوده ). اهـ.
و أما يتعلق بالإكثار من الدعاء فليعلم أنه " ليس شيء أكرم على الله من الدعاء " و أنه "من لم يسأل الله يغضب عليه" و "إن الله حيي كريم، يستحيي إذا رفع عبده إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين " كما جاء في الأحاديث عند الترمذي في سننه. فكيف يزهد المؤمن في الدعاء ولا يكثر منه بعد ذلك ؟
ومن الكتب المفيدة في شأن الصلاة والدعاء : " رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه " و كتاب "قرة عيون الموحدين في الصلاة الخاشعة والوقوف بين يدي رب العالمين" للشيخ أحمد الحواشي ، وكتاب " رهبان الليل "للشيخ سيد العفاني ، "شروط الدعاء وموانع الإجابة في ضوء الكتاب والسنة " للشيخ سعيد القحطاني، وكتب الرقائق عموما، وقد ذكرنا بعضها في الفتوى رقم: 128330.
والله أعلم.