الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فكلمة التوحيد كلمة عظيمة تنجي قائلها الموقن بها المستوفي لشروطها من الخلود في النار، فمذهب أهل السنة والجماعة أن من مات موحداً وإن كان عاصياً فمصيره إلى الجنة، حتى وإن عذب في النار على قدر معصيته، فلا بد أن يخرج منها ويدخل الجنة، وعلى ذلك تدل السنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير. متفق عليه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم فأماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر. متفق عليه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قال: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. ثلاثا ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر. متفق عليه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل. متفق عليه.
وليس في هذا تهوين من أمر المعصية والذنب ، فإن غمسة في نار جهنم لا يساويها نعيم الدنيا كله ، فليعلم العاصي أنه على خطر عظيم ، وأنه معرض للوعيد ، بل معرض لسوء الخاتمة وسلب الإيمان ، فإن المعاصي بريد الكفر ، نسأل الله العافية .
واما عن الفرق بين أهل السنة والمرجئة في المسألة فهو فرق عظيم، فان غالية المرجئة يرون العاصي كامل الايمان ولا عذاب عليه ، وطوائف من المرجئة يرون نجاته ولو ترك جميع العمل، وأما أهل السنة فيرون أن العمل من الإيمان وأن تركه بالكلية كفر ، وأن المقصر فيه ناقص الايمان معرض للوعيد ، قد يعذب في النار حتى يطهر من درن المعاصي ثم يكون مآله الجنة.
وقد فصل شيخ الإسلام ابن تيمية في الفرق بين الطوائف فقال: طوائف أهل الأهواء من الخوارج، والمعتزلة، والجهمية، والمرجئة، كَرَّاميهم، وغير كرَّاميهم، يقولون: إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق، ومنهم من يدعي الإجماع على ذلك، وقد ذكر أبو الحسن في بعض كتبه الإجماع على ذلك ومن هنا غلطوا فيه وخالفوا فيه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع مخالفة صريح المعقول، بل الخوارج والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد، وقالوا: لا يجتمع في الشخص الواحد طاعة يستحق بها الثواب، ومعصية يستحق بها العقاب، ولا يكون الشخص الواحد محموداً من وجه مذمومًا من وجه، ولا محبوباً مدعواً له من وجه مسخوطاً ملعوناً من وجه، ولا يتصور أن الشخص الواحد يدخل الجنة والنار جميعاً عندهم، بل من دخل إحداهما لم يدخل الأخرى عندهم، ولهذا أنكروا خروج أحد من النار أو الشفاعة في أحد من أهل النار، وحكى عن غالية المرجئة أنهم وافقوهم على هذا الأصل، لكن هؤلاء قالوا: إن أهل الكبائر يدخلون الجنة ولا يدخلون النار مقابلة لأولئك، وأما أهل السنة والجماعة والصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وسائر طوائف المسلمين من أهل الحديث والفقهاء وأهل الكلام من مرجئة الفقهاء والكَرَّامية والكُلاَّبية والأشعرية والشيعة مرجئهم وغير مرجئهم فيقولون: إن الشخص الواحد قد يعذبه الله بالنار ثم يدخله الجنة كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة، وهذا الشخص الذي له سيئات عذب بها، وله حسنات دخل بها الجنة، وله معصية وطاعة باتفاق، فإن هؤلاء الطوائف لم يتنازعوا في حكمه، لكن تنازعوا في اسمه، فقالت المرجئة جهميتهم وغير جهميتهم هو مؤمن كامل الإيمان، وأهل السنة والجماعة على أنه مؤمن ناقص الإيمان، ولولا ذلك لما عذب كما أنه ناقص البر والتقوى باتفاق المسلمين. اهـ.
وأما ما ذكر في القول بعدم الرؤية فهو معروف عند هذه الطائفة، وأما أهل السنة فإنهم يؤمنون برؤية الله تعالى في الآخرة انطلاقا من نصوص الوحي الواردة في ذلك فقد قال الله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة* إلى ربها ناظرة) [القيامة22-23:] وقال سبحانه في الكفار : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) [المطففين: 15]
قال الشافعي: لما حجب هؤلاء في السخط دل على أن أولياءه يرونه في الرضى.
وقال عز وجل: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) فالحسنى: هي الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجه الله الكريم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم ؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة؟ وتنجنا من النار؟. قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل" ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة. )
وفي الصحيحين من حديث جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة، فقال " إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته "
وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة أن ناساً قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تضامون في رؤية القمر ليلة البدر" ؟ قالوا: لا يا رسول الله قال "هل تضامون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟" قالوا: لا يا رسول الله. قال: "فإنكم ترونه كذلك " الحديث. أي ترونه رؤية صحيحة لا مضارة فيها.
إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة. قال الإمام ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ {القيامة:22، 23}: قد ثبتت رؤية المؤمنين لله عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث، لا يمكن دفعها ولا منعها. ـ وذكر طرفا منها- ثم قال: ولولا خشية الإطالة لأوردنا الأحاديث بطرقها وألفاظها من الصحاح والحسان والمسانيد والسنن، ولكن ذكرنا ذلك مفرقا في مواضع من هذا التفسير، وبالله التوفيق. وهذا بحمد الله مجمع عليه بين الصحابة والتابعين وسلف هذه الأمة، كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام وهداة الأنام. اهـ.
وقال الإمام النووي: اعلم أن مذهب أهل السنة بأجمعهم أن رؤية الله تعالى ممكنة غير مستحيلة عقلا، وأجمعوا أيضا على وقوعها في الآخرة، وأن المؤمنين يرون الله تعالى دون الكافرين، وزعمت طائفة من أهل البدع المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة أن الله تعالى لا يراه أحد من خلقه، وأن رؤيته مستحيلة عقلا، وهذا الذي قالوه خطأ صريح وجهل قبيح، وقد تظاهرت أدله الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فمن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة للمؤمنين، ورواها نحو من عشرين صحابيا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآيات القرآن فيها مشهورة، واعتراضات المبتدعة عليها لها أجوبة مشهورة في كتب المتكلمين من أهل السنة، وكذلك باقي شبههم وهي مستقصاة في كتب الكلام وليس بنا ضرورة إلى ذكرها هنا. اهـ.
وأما الفرق بين هذا وبين صكوك الغفران فهو فرق عظيم، إذ لا يعقل أن يقارن العاقل بين ما ثبت من وعد الله ووعيده في الكتاب والسنة وبين أكاذيب بولس التي دسها في النصرانية.
والله أعلم.