السؤال
نعلم أن الله سبحانه وتعالى عدل، وهو سبحانه وتعالى خلق الحيوان وهو غير مكلف، و بالتالي فلماذا يترك الله سبحانه و تعالى وهو العادل مخلوقا غير مكلف يعذب على أيدي بني آدم، ألا يقتضي العدل أن لا يتعرض مخلوق غير مكلف لأي نوع من العذاب أبدا؟
نعلم أن الله سبحانه وتعالى عدل، وهو سبحانه وتعالى خلق الحيوان وهو غير مكلف، و بالتالي فلماذا يترك الله سبحانه و تعالى وهو العادل مخلوقا غير مكلف يعذب على أيدي بني آدم، ألا يقتضي العدل أن لا يتعرض مخلوق غير مكلف لأي نوع من العذاب أبدا؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فهذا المأخذ إنما يصح لو كان تسليط الله تعالى لبني آدم على البهائم من باب العقوبة لها، وليس الأمر كذلك، بل هو في الأصل ابتلاء شرعي لبني آدم أنفسهم، حيث أمروا بالإحسان إليها حتى في القتل والذبح، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته فليرح ذبيحته. رواه مسلم.
فمن ذنوب بني آدم التي يحاسبون ويعاقبون عليها يوم القيامة: إيلام أو إتلاف الحيوان بغير حق، وقد ثبت في ذلك نصوص كثيرة، من أشهرها قول النبي صلى الله عليه وسلم: عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار؛ لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. متفق عليه. وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: من قتل عصفورا في غير شيء إلا بحقه سأله الله عز وجل عنه يوم القيامة. رواه أحمد والنسائي، وحسنه الألباني. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو غفر لكم ما تأتون إلى البهائم لغفر لكم كثيرا. رواه أحمد.وحسنه الألباني، وجوده المناوي في (التيسير) وقال: أي ما تفعلون بها من الضرب وتكليفها فوق طاقتها من الحمل والركوب. اهـ.
فلا بد من التنبه إلى أن إقامة العدل المطلق لا يكون في الدنيا، وإنما يكون في الآخرة، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ {الأنبياء:47}
وقال عز وجل: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ {إبراهيم 42} وراجع في ذلك الفتويين: 120102، 128069.
ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء. رواه مسلم.
قال القاري في (مرقاة المفاتيح): القضية دالة بطريق المبالغة على كمال العدالة بين كافة المكلفين؛ فإنه إذا كان هذا حال الحيوانات الخارجة عن التكليف، فكيف بذوي العقول من الوضيع والشريف والقوي والضعيف اهـ.
ثم إننا ننبه الأخ السائل على أن قياس أفعال الله تعالى على أفعال البشر من أفسد القياس وأشنعه، فلا يمكن للإنسان أن يحيط علما بحكمة الله تعالى في خلقه وأمره، وقضائه وقدره، مهما أوتي من الفطنة والذكاء والعلم والفهم.
قال ابن القيم في (مفتاح دار السعادة): مذهب أهل السنة والجماعة أن أفعال الله تعالى لا تقاس بأفعال عباده، ولا تدخل تحت شرائع عقولهم القاصرة، بل أفعاله لا تشبه أفعال خلقه، ولا صفاته صفاتهم، ولا ذاته ذواتهم، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير اهـ.
وقال الكرمي في (رفع الشبهة والغرر): تعليل أفعال الله كلها الجارية في المكلفين وغيرهم مما لا سبيل إلى معرفته والوقوف على سر حقيقته، وفي مثل هذا المقام تخبطت الأفهام، فقالت طائفة: إن البهائم والأطفال لا تتألم ولا تحس بالألم. وهذا جحد للضرورة ومكابرة في المحسوس. وقالت طائفة: إن ذلك لا يصدر إلا من فاعل الشر. وقالت طائفة من غلاة الرافضة بالتزام التناسخ وقالوا: إنما حسن ذلك لاستحقاقهم ذلك بجرائم سابقة اقترفوها في غير هذه القوالب فنقلت أرواحهم إلى هذه القوالب عقوبة لهم. وموجب هذا التخليط تعلق أمل هؤلاء بمعرفة حقيقة أسرار أفعال الله تعالى في المكلفين وغيرهم، وهذا مما لا سبيل إلى معرفته، ويكفي معرفة الحكمة والتعليل في ثواب وعقاب المكلفين وهو المراد، وإلا فمن المحال معرفة أسرار أفعاله كلها لأن الرب تعالى لا يمثل بالخلق لا في ذاته ولا صفاته ولا في أفعاله، بل له المثل الأعلى، فما ثبت لغيره من الكمال فهو أحق به، وما تنزه عنه من النقص فهو أحق بتنزيهه عنه سبحانه، وليس كل ما كان ظلما من العبد يكون ظلما من الرب، ولا ما كان قبيحا من العبد يكون قبيحا من الرب؛ فإنه سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، لكن القدرية شبهت في الأفعال فقاسوا أفعال الله على أفعال خلقه وهو أفسد القياس اهـ.
وقد ترتب على تضييع هذا الأصل اختلاف شديد بين المتكلمين في هذه المسألة محل السؤال، فأطالوا فيها النفس وحاروا وتماروا.
قال الرازي عند تفسير قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأنْعَامِ} قال: المسألة الثانية: قالت الثنوية: ذبح الحيوانات إيلام، والإيلام قبيح، والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم، فيمتنع أن يكون الذبح حلالاً مباحاً بحكم الله. قالوا: والذي يحقق ذلك أن هذه الحيوانات ليس لها قدرة عن الدفع عن أنفسها، ولا لها لسان تحتج على من قصد إيلامها، والإيلام قبيح إلا أن إيلام من بلغ في العجز والحيرة إلى هذا الحد أقبح. واعلم أن فرق المسلمين افترقوا فرقاً كثيرة بسبب هذه الشبهة، فقالت المكرمية: لا نسلم أن هذه الحيوانات تتألم عند الذبح، بل لعلّ الله تعالى يرفع ألم الذبح عنها. وهذا كالمكابرة في الضروريات. وقالت المعتزلة: لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقاً، بل إنما يقبح إذا لم يكن مسبوقاً بجناية ولا ملحقاً بعوض، وهاهنا الله سبحانه يعوض هذه الحيوانات في الآخرة بأعواض شريفة، وحينئذ يخرج هذا الذبح عن أن يكون ظلماً، قالوا: والذي يدل على صحة ما قلناه ما تقرر في العقول أنه يحسن تحمل ألم الفصد والحجامة لطلب الصحة، فإذا حسن تحمل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة، فكذلك القول في الذبح. وقال أصحابنا: إن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه، والمالك لا اعتراض عليه إذا تصرف في ملك نفسه. والمسألة طويلة مذكورة في علم الأصول. اهـ.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله هذه المذاهب تفصيلا في (طريق الهجرتين) في فصل: (بيان ما للناس في دخول الشر في القضاء الإلهي من الطرق والأصول) فراجعه إن شئت (ص238: ص 258). وكذلك تعرض لذلك في (شفاء العليل) في الباب الحادي والعشرون: (تنزيه القضاء الإلهي عن الشر ودخوله في المقضي) ولتمام البحث يرجى الاطلاع على فصل (الأسماء الحسنى والصفات العلا مقتضية لآثارها من العبودية) من كتاب (مفتاح دار السعادة). ولمزيد الفائدة يمكن مراجعة الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 98326 ، 63258 ، 29341 ، 36328.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني