السؤال
أنا كنت شخصا سيئا للغاية، فرجعت بإذن الله إلى طريق الإيمان، وعزمت على إصلاح نفسي، وتبت، وما رأيت ذنبا أرتكبه إلا تركته، وذهبت في طريق الطاعات وأحببت الله، ورغم ذلك فلا أشعر برضى الله تعالى عني، وشعرت بشعور غريب يلهمني أني أظن نفسي من المؤمنين، أني أصبت بالغرور، فأصبحت وكأني في صفحة حالكة السواد لا أعرف حقيقتي. فما العلاج . وأرجوكم أجيبوني سريعا
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالحمد لله الذي منَّ عليك بالتوبة، ثم الواجب أن يعلم أن المسلم ينبغي أن يكون دائما خائفا من ذنوبه، فيحمله ذلك على عدم الأمن من مكر الله تعالى، وأن يكون مع هذا راجيا فضل ربه محسنا الظن به، فينجو بذلك من خطر اليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله، فاستحضاره لذنوبه وتقصيره ينفي عنه العجب الذي هو من أقتل الأدواء وأخطر أمراض القلب.
كما روي في الحديث: لو لم تكونوا تذنبون لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب. رواه البيهقي وغيره، وجود المنذري إسناده.
واستحضار العبد لرحمة ربه وصفات جماله تعالى وإحسانه الظن به ومشاهدته لمنته ينجيه بإذن الله من القنوط واليأس، فمن استجمع هذين الأمرين وكان دائرا بينهما رجي له الفوز والسلامة، فعلى العبد أن يلزم هذه الطريق، فيكون بين مشاهدة منة ربه ومطالعة عيب نفسه، ونحن ننقل لك ههنا كلاما نفيسا للإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله، نرجو أن يكون فيه البيان الشافي والعلاج الناجع لما شكوت منه.
قال رحمه الله في أوائل الوابل الصيب: فإن العارفين كلهم مجمعون على أن التوفيق أن لا يكلك الله تعالى إلى نفسك، والخذلان أن يكلك الله تعالى إلى نفسك، فمن أراد الله به خيرا فتح له باب الذل والانكسار ودوام اللجأ إلى الله تعالى والافتقار إليه ورؤية عيوب نفسه وجهلها وعدوانها ومشاهدة فضل ربه وإحسانه ورحمته وجوده وبره وغناه وحمده، فالعارف سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين لا يمكنه أن يسير إلا بهما، فمتى فاته واحد منهما فهو كالطير الذي فقد أحد جناحيه قال شيخ الإسلام : العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح [ سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ] فجمع في قوله صلى الله عليه وسلم أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل، فمشاهدة المنة توجب له المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان، ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت وأن لا يرى نفسه إلا مفلسا، وأقرب باب دخل منه العبد على الله تعالى هو الإفلاس، فلا يرى لنفسه حالا ولا مقاما ولا سببا يتعلق به ولا وسيلة منه يمن بها بل يدخل على الله تعالى من باب الافتقار الصرف والافلاس المحض دخول من كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع وشملته الكسرة من كل جهاته وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل وكمال فاقته وفقره إليه، وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة وضرورة كاملة إلى ربه تبارك وتعالى وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تجبر إلا أن يعود الله تعالى عليه ويتداركه برحمته، ولا طريق إلى الله أقرب من العبودية، ولا حجاب أغلظ من الدعوى. والعبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها : حب كامل وذل تام، ومنشأ هذين الأصلين عن ذينك الأصلين المتقدمين وهما مشاهدة المنة التي تورث المحبة ومطالعة عيب النفس والعمل التي تورث الذل التام. انتهى.
والله أعلم.