الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فمن المعروف أن الأرض بالنسبة للإنسان هي مستقره الذي يحيى فيه ولا يستطيع العيش دونه، وهي بيئته التي مكَّنه الله منها دون غيرها من أجزاء الكون الفسيح، فهذه السموات ـ على عظمتها وسعتها ـ ليس فيها موضع يمكن لنا أن نستقر فيه، فالأرض بالنسبة لنا هي السكن والمستقر والمتاع، فالتنويه بذكرها تذكير مباشرة بشيء محسوس لجميع بني آدم، وهو أدعى للامتنان وشكر الله تعالى، قال تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ {الأعراف: 10}.
وقال سبحانه: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ {البقرة : 36}. ولذلك كان من المناسب أن يكون اهتمام القرآن بالحديث عنها أكبر وأعظم من غيرها من أجزاء الكون، ولا سيما والقرآن لم ينزل فقط لعلماء الهيئة والفلك ونحوهم، بل نزل للناس كافة، وفيهم من لا يدرك إلا البيئة القريبة التي يباشر حياته عليها.
ولهذا المعنى أيضا: نجد أن القرآن يكثر من ذكر الشمس والقمر رغم وجود ملايين النجوم والأقمار المبثوثة في مجرات هذا الكون الفسيح مما يكبرهما بأضعاف كثيرة، وذلك لأن الشمس والقمر معروفان لكل بني آدم، ويتصل نفعهما المباشر بهم جميعا، وترتبط بدورتهما مصالح دنياهم وكذلك دينهم كأوقات العبادات من الصلاة والصيام والحج والزكاة.
وقد نبه أهل العلم على العلة من قصر مدة خلق السموات عن مدة خلق الأرض مع كونها أعظم منها، وما في ذلك من الحكم واللطائف، ومن ذلك ما قاله البقاعي في نظم الدرر: جعل مدة خلقها ضعف مدة خلق السموات مع كونها أصغر من السموات، دلالة على أنها هي المقصودة بالذات، لما فيها من الثقلين, فزادت بما فيها من كثرة المنافع وتباين أصناف الأعراض والجواهر، لأن ذلك أدخل في المنة على سكانها والاعتناء بشأنهم وشأنها وزادت أيضا بما فيها من الابتلاء بالتهيئة للمعاصي والمجاهدات والمعالجات التي يتنافس فيها الملأ الأعلى ويتخاصم، كل ذلك دلالة على أن المدة ما هي لأجل القدرة، بل لأجل التنبيه على ما في المقدر من المقدور وعجائب الأمور, وليعلم أيضا بخلق السماء التي هي أكبر جرما وأتقن جسما وأعظم زينة وأكثر منافع بما لا يقايس في أقل من مدة خلق الأرض أن خلقها في تلك المدة ليس للعجز عن إيجادها في أقل من اللمح, بل لحكم تعجز عن حملها العقول ولعل تخصيص السماء بقصر المدة دون العكس لإجراء أمرها على ما نتعارفه من أن بناء السقف أخف من بناء البيت، تنبيها على أنه بنى أمر دارنا هذه على الأسباب تعليما للتأني وتدريبا على السكينة والبعد من العجلة. هـ.
ونقل بعض ذلك الخطيب الشربيني في تفسير السراج المنير.
وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: إنما كانت مدة خلق السماوات السبع أقصر من مدة خلق الأرض مع أن عوالم السماوات أعظم وأكثر لأن الله خلق السماوات بكيفية أسرع، فلعل خلق السماوات كان بانفصال بعضها عن بعض وتفرقع أحجامها بعضها عن خروج بعض آخر منه وأما خلق الأرض فالأشبه أنه بطريقة التولد المبطئ، لأنها تكونت من العناصر الطبيعية فكان تولد بعضها عن بعض أيضا.هـ.
ولعل من المناسب أيضا هنا أن نذكر بأولية خلق الأرض، فقد قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ {البقرة : 29}.
قال ابن كثير: في هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولا ثم خلق السماوات سبعًا، وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك، وقد صرح المفسرون بذلك، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعاً بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض. هـ.
ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتوى رقم: 69060.
ثم ننبه السائل الكريم على أمرين: الأول: يتعلق بقوله عن الأرض: هي أيضا جزء من السماء كسائر الكواكب ـ فهذا ليس بصحيح لا في لغة العرب، ولا في الاستعمال القرآني ولو صح ذلك فلا إشكال أيضا، ويكون ذلك من عطف الخاص على العام، للاهتمام به وإعلاء قدره وإظهار شأنه، كقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ {الأحزاب: 7}.
وقوله: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ {البقرة: 98}.
والثاني: يتعلق بقوله: لماذا النص القرآني يشعرنا أن الأرض والسماء متقاربان في الحجم؟.
فهذا ليس بصحيح، وليس هناك في اقتران ذكر السماء بالأرض ما تفهم منه المقارنة بين حجميهما أصلا.
والله أعلم.