السؤال
أنا أعيش في المدينة المنورة والحمد لله، وأتمنى أن أموت فيها، وأدفن فيها، ولكن في نفس الوقت أنا بعيدة عن أمي وأبي في سوريا، وأود لو أعيش بقربهم وبرهم، ولو سمح لي زوجي بالجلوس بجانبهم لن أمانع فزوجي متسامح ويشعر بي ويقدر مشاعري، ولكن سؤالي هل علي إثم بترك المدينة أو رغبتي بالعيش بجانب أهلي بعيدا عن المدينة الغالية والحبيبة؟ أفيدوني فأنا أعيش في اضطراب نفسي. وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالعيش في المدينة نعمة عظيمة ينبغي الحرص عليها وعدم التفريط فيها؛ لما ثبت في السنة الصحيحة من فضائل كثيرة لمن عاش بها ومات بها، كما بينا في الفتوى رقم: 63646.
مع ذلك لا حرج عليك في تركها والذهاب للعيش مع والديك لبرهم أو لحاجتهم إليك، ولا إثم عليك في ذلك، وإنما سيفوتك فضل عظيم، وما ورد من ذم لمن ترك المدينة ليس عاما في كل الأشخاص، فإن من خرج لحاجة معتبرة، وليس كرها في المدينة فليس داخلا فيما ورد من ذم، وقد خرج كثير من الصحابة من المدينة وتفرقوا في الأمصار لنشر الدين وتعليم الناس وغير ذلك.
وأما ما ورد في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَدْعُو الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ وَقَرِيبَهُ هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ، هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ فِيهَا خَيْرًا مِنْهُ، أَلَا إِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ تُخْرِجُ الْخَبِيثَ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ. رواه مسلم. فله تفسير عند العلماء، فقوله: لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا أي كراهية لها، كما قال شراح الحديث كالقرطبي وغيره، وقال أبو الوليد الباجي في شرح الموطأ: (رَغْبَةً عَنْهَا) يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم رَغْبَةً عَنْ ثَوَابِ السَّاكِنِ فِيهَا، وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ لِضَرُورَةِ شِدَّةِ زَمَانٍ أَوْ فِتْنَةٍ فَلَيْسَ مِمَّنْ يَخْرُجُ رَغْبَةً عَنْهَا . وَالظَّاهِرُ عِنْدِي: أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْخُرُوجَ عَنْ اسْتِيطَانِهَا إِلَى اسْتِيطَانِ غَيْرِهَا ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُسْتَوْطِنًا غَيْرَهَا فَقَدِمَ عَلَيْهَا طَالِبًا لِلْقُرْبَةِ بِإِتْيَانِهَا أَوْ مُسَافِرًا فَخَرَجَ عَنْهَا رَاجِعًا إِلَى وَطَنِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَسْفَارِهِ، فَلَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا رَغْبَةً عَنْهَا. اهـ
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: وَالْمُرَاد بِهِ الْخَارِجُونَ مِنْ الْمَدِينَة رَغْبَة عَنْهَا كَارِهِينَ لَهَا، وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ لِحَاجَةٍ أَوْ تِجَارَة أَوْ جِهَاد أَوْ نَحْو ذَلِكَ فَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي مَعْنَى الْحَدِيث. اهـ
فإن أمكن أن تجمعي بين بر والديك في بعض الأوقات والعيش في المدينة في بعض الأوقات فهو خير، وإلا فلا حرج عليك في الرجوع إلى بلدك، ولا إثم في ذلك كما ذكر العلماء.
والله أعلم.