السؤال
كيف نجمع بين دعاء إبراهيم -عليه السلام- للبلد الحرام بالأمن وبين فعل القرامطة فيه؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأمن البيت الحرام لا تقتصر أدلته على دعوة الخليل إبراهيم عليه السلام، بل قد جاء التصريح به في مواضع من كتاب الله تعالى، كقوله عز وجل: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا [البقرة: 125] في الآية التي سبقت ذكر دعوةإبراهيم: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [البقرة: 126]. وكقوله تعالى: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران: 97]. وقوله تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا [القصص: 57] وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] وقوله تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 3، 4].
وقد سمَّى الله تعالى مكة بالبلد الأمين وأقسم به فقال: وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين: 3] يعني الآمن، قال الطبري: وهذا البلد الآمن من أعدائه أن يحاربوا أهله أو يغزوهم. وقيل: الأمين، ومعناه: الآمن .. وهذا كما قال جلّ ثناؤه: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) . اهـ.
وقال ابن كثير: يعني: مكة. قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، وإبراهيم النخعي، وابن زيد، وكعب الأحبار. ولا خلاف في ذلك. اهـ.
فمن استشكل أثر دعوة الخليل إبراهيم عليه السلام، مع حادثة القرامطة ونحوها من الحوادث، فإنه يستشكل أيضا دلالة هذه الآيات! والحقيقة أنه لا إشكال فيهما جميعا، فاستجابة الله تعالى لدعوة خليله، وجعله البيت الحرام آمنا، لا يعني أن يكون ذلك عاما مطلقا، في كل وقت، وعلى أية حال، وإنما يعني أن يكون هذا هو الغالب الذي تعرف به حال مكة، وتتميز به على سائر البلدان، ولا يمنع أن يتخلل ذلك أوقات من الخوف، تكون قليلة وعارضة، فلا تدوم ولا تستمر، ولا تطول ولا تستقر، بل تكون بمثابة الاستثناء من القاعدة - لحكمة يعلمها الله - ثم تعود كما كانت.
وقد بوَّب البخاري في صحيحه: باب قول الله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا ... } ثم: باب قول الله تعالى: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس} وأسنده تحته حديث أبي هريرة مرفوعا: يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة. وحديث أبي سعيد الخدري مرفوعا: ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج.
قال ابن المنير في المتواري على أبواب البخاري: إنما أدخل خبر ذي السويقتين تحت الترجمة بالآية، ليبين أن الأمر المذكور مخصوص بالزمن الذي شاء الله فيه الأمان. وإذا شاء رفعه عند خروج ذي السويقتين، ثم إذا شاء أعاده بعد. اهـ.
وقال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: وأما حديث أبي هريرة أن ذا السويقتين يخرب الكعبة، فهو مبين لقوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام: (رب اجعل هذا البلد آمنا) أن معناه الخصوص، وأن الله تعالى جعلها حرما آمنا غير وقت تخريب ذي السويقتين لها؛ لأن ذلك لا يكون إلا باستباحته حرمتها وتغلبه عليها، ثم تعود حرمتها ويعود الحج إليها كما أخبر الله نبيه وخليله إبراهيم فقال له: {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق} فهذا شرط الله لا ينخرم ولا يحول، وإن كان في خلاله وقت يكون فيه خوف فلا يدوم ولا بد من ارتفاعه ورجوع حرمتها وأمنها وحج العباد إليها، كما كان قبل إجابته لدعوة إبراهيم خليله، يدل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري .. وعلى هذا التأويل لا تتضاد الآثار ولا معنى الآية. اهـ.
ومن أهل العلم من حمل المعنى على الأحكام الشرعية لا القدرية الكونية، كما سبق أن أشرنا إليه في الفتوى: 6164. فيكون المطلوب في دعاء الخليل أن يشرع الله تعالى لعباده من الأحكام ما يجعلهم آمنين في الحرم. ويكون الأمن المجعول في البيت الحرام هو تلك الأحكام الشرعية التي تؤمِّن الحرم وأهله. وبذلك أجاب بعض من حضر القرمطي وهو يفعل ما يفعل في البيت الحرام، فقد ذكر الواحدي في تحصيل المرام في أخبار البيت الحرام أن القرمطي عندما قتل الحجيج عند الكعبة صاح فيهم: يا حمير أنتم تقولون: {ومن دخله كان آمناً} فأين الأمن وقد فعلت ما فعلت؟ وعطف دابته ليخرج فأخذ بعض الحاضرين بلجام فرسه، وقد استسلم للقتل، وقال له: ليس معنى الآية ما ذكرت، وإنما معنى الآية: من دخل فأمنوه، فلوى القرمطي فرسه وخرج ولم يلتفت إليه. اهـ.
وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: لما كان الغالب على أحوال الجاهلية أخذ القوي مال الضعيف، ولم يكن بينهم تحاكم ولا شريعة، كان الأمن يومئذ هو الحيلولة بين القوي والضعيف، فجعل الله لهم البيت أمنا للناس يومئذ، أي يصد القوي عن أن يتناول فيه الضعيف، قال تعالى: أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم [العنكبوت: 67] فهذه منة على أهل الجاهلية، وأما في الإسلام فقد أغنى الله تعالى بما شرعه من أحكامه وما أقامه من حُكَّامه فكان ذلك أمنا كافيا. قال السهيلي فقوله تعالى: مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا [آل عمران: 97] إنما هو إخبار عن تعظيم حرمته في الجاهلية نعمة منه تعالى على أهل مكة، فكان في ذلك مصلحة لذرية إسماعيل عليه السلام ... والمراد من الجعل في الآية إما الجعل التكويني لأن ذلك قدره الله وأوجد أسبابه فاستقر ذلك بين أهل الجاهلية ويسرهم إلى تعظيمه، وإما الجعل أن أمر الله إبراهيم بذلك فأبلغه إبراهيم ابنه إسماعيل وبثه في ذريته فتلقاه أعقابهم تلقي الأمور المسلمة، فدام ذلك الأمن في العصور والأجيال من عهد إبراهيم عليه السلام إلى أن أغنى الله عنه بما شرع من أحكام الأمن في الإسلام في كل مكان وتم مراد الله تعالى، فلا يريبكم ما حدث في المسجد الحرام من الخوف في حصار الحجاج في فتنة ابن الزبير، ولا ما حدث فيه من الرعب والقتل والنهب في زمن القرامطة، حين غزاه الحسن بن بهرام الجنابي كبير القرامطة إذ قتل بمكة آلافا من الناس، وكان يقول لهم: يا كلاب أليس قال لكم محمد المكي: {ومن دخله كان آمنا} أي أمن هنا؟ وهو جاهل غبي؛ لأن الله أراد الأمر بأن يجعل المسجد الحرام مأمنا في مدة الجاهلية إذ لم يكن للناس وازع عن الظلم، أو هو خبر مراد به الأمر مثل {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [البقرة: 228]. اهـ.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني