الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالكحول المسكرة خمر, والحكم على استعمال الكحول كوقود للسيارات ينبني على عدة مسائل فرعية ذكرها الفقهاء وهي: حكم صنع الخمر وحكم بيعها وحكمها من حيث الطهارة والنجاسة وكذا حكم بيع النجس, وحكم الانتفاع بالنجس, وكذا المفاسد المترتبة على انتشار الكحول كوقود للسيارات بحيث تصبح في متناول الجميع, فنقول وبالله التوفيق:
أما المسألة الأولى وهي: حكم صنع الخمر فلا نعلم خلافا بين العلماء في تحريم صنعها؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن في الخمر عشرة : عاصرها ومعتصرها... وبائعها ومبتاعها ... إلخ . والحديث رواه الترمذي وأبو داوود, وقد منع الفقهاء بيع العنب لمن يتخذه خمرا.
وأما بيع الكحول كوقود للسيارات فقد دلت السنة على تحريم بيع الخمر والاتجار بها كما في الحديث السابق, وروى البخاري أيضا عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال : إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْأَصْنَامِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: لَا؛ هُوَ حَرَامٌ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ ... وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : وإن الله عز وجل إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه ... رواه أحمد.
وقد نقل غير واحد من العلماء الإجماع على تحريم بيع الخمر والاتجار به.
قال ابن عبد البر في الاستذكار : ... وهذا إجماع من المسلمين كافة عن كافة أنه لا يحل لمسلم بيع الخمر ولا التجارة في الخمر ... انتهى.
وقال الحافظ في الفتح : ... وَفِيهِ تَحْرِيمُ بَيْعِ الْخَمْرِ وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ الْإِجْمَاعَ ، وَشَذَّ مَنْ قَالَ يَجُوزُ بَيْعُهَا ... انتهى .
فالذي يظهر من هذه النقول أنه لا يجوز بيع الكحول كوقود للسيارات لأن الكحول المسكرة خمر, وأما الانتفاع بها كوقود من غير بيع فعلى القول بنجاسة الخمر -كما فصلناه في الفتوى رقم: 47204 , وهذا هو المفتى به عندنا- فإن العلماء مختلفون في جواز الانتفاع بالنجس في غير بدن الآدمي، والحديث السابق يدل عند جمهور العلماء على عدم جواز الانتفاع بالمحرم والنجس ولو من غير بيع.
قال النووي في شرح مسلم عند شرحه للحديث السابق وقوله صلى الله عليه وسلم: لا؛ هو حرام. قال : وَالضَّمِير فِي ( هُوَ ) يَعُود إِلَى الْبَيْع ، لَا إِلَى الِانْتِفَاع ، هَذَا هُوَ الصَّحِيح عِنْد الشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه أَنَّهُ يَجُوز الِانْتِفَاع بِشَحْمِ الْمَيْتَة فِي طَلْي السُّفُن وَالِاسْتِصْبَاح بِهَا وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بِأَكْلٍ وَلَا فِي بَدَن الْآدَمِيّ ، وَبِهَذَا قَالَ أَيْضًا عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح وَمُحَمَّد بْن جَرِير الطَّبَرِيّ، وَقَالَ الْجُمْهُور: لَا يَجُوز الِانْتِفَاع بِهِ فِي شَيْء أَصْلًا لِعُمُومِ النَّهْي عَنْ الِانْتِفَاع بِالْمَيْتَةِ إِلَّا مَا خُصَّ، وَهُوَ الْجِلْد الْمَدْبُوغ ... انتهى.
فمن أجاز الانتفاع بالنجس جاز عنده استعمال الكحول كوقود للسيارات فيما يظهر, ومن لم يجز الانتفاع بالنجس فإنه يمنع من ذلك, والمرجح عندنا هو جواز الانتفاع بالنجس مع الكراهة؛ كما في الفتوى رقم: 40327 .
وما ذكره السائل من المصالح المترتبة على استعمال الكحول كوقود للسيارات بدل البنزين من أنه أقل تكلفة وتلويثا للبيئة لا شك أنها مصالح معتبرة لولا ما يقابلها من مفسدة انتشار الكحول كوقود للسيارات بحيث يصبح في متناول الجميع لأن تلويث المجتمع بالخمر أشد من تلويث البيئة, وإذا انتشر الخمر كوقود للسيارات فلا تسأل حينئذ عن استعماله في الشرب وتخدير العقول, وكذا ما يترتب على استعمالها من تلويث للأبدان والملابس لكونها نجسة.
ولذا فإننا نرى عدم جواز استعمال الكحول كوقود لعدم جواز صنع الكحول وعدم جواز بيعها وعدم جواز بيع النجس أيضا على قول الجمهور، ولما يترتب على انتشاره من مفاسد.
والله أعلم.