وُلِد الإمام الحافظ شيخ الإسلام المُقرئ المُحدّث عَلَم الجهابذة أبو الحسن عليّ بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن النُّعمان بن دينار بن عبد الله البغدادي بدار القطن ببغداد، سنة ست وثلاثمائة من الهجرة النّبويّة، واشتهر بالدّارقُطني نسبة إلى دار القُطن -محلُّ ولادته-، وهي مَحلّة ببغداد بالعراق.
نشأته وتعلُّمه:
نشأ الدَّارقُطني في بيت علم وفضل، فقد كان أبوه من المُحدّثين الثقات، فحرص على تعليمه وهو صغير، كما أنه بدأ الكتابة وهو صبي، فقد قال عن نفسه: "كتبت في أول سنة خمس عشرة وثلاثمائة" أي وهو ابن تسع سنوات، وكان يحضر مجلس الإمام أبو القاسم البغوي منذ نعومة أظفاره.
تتلمذ على شيوخ بلده ثم ارتحل إلى البصرة والكوفة وغيرهما من مدن العراق، التي كانت مركزًا من مراكز العلم والعلماء، ثم رحل إلى الشّام ومِصر والحِجاز، قال الحاكم: "دخل الدَّارَقُطْنِيّ الشّام ومِصر على كبر السّن، وحجّ واستفاد وأفاد، ومصنّفاته يطُول ذكرها"، كما رحل إلى طبرية في الشّام، ثم رحل إلى خوزستان للسّماع من شيوخها.
كان توسّع الدَّارَقُطْنِيّ في الطّلب والرّحلة - مع ازدهار عصره بالعلم والعلماء -، سببًا في كثرة شيوخه الذين تلقّى عنهم، واستفاد منهم وتأثّر بهم، فقد سمع أبا القاسم البغوي، وأبا بكر بن أبي داود، ويحيى بن صاعد، وبدر بن الهيثم القاضي، وأحمد بن إسحاق البهلول، وعبد الوهاب بن أبي حيّة، والفضل بن أحمد الزّبيدي، وأبا سعيد العدوي، ويوسف بن يعقوب النّيسابوري، وأبا حامد بن هارون الحضرمي، وإسماعيل بن العباس الورّاق، وإبراهيم بن حمّاد القاضي، وعبد الله بن محمّد بن سعيد الجمّال، وأبا طالب أحمد بن نصر الحافظ، وخلقًا كثيرًا من هذه الطّبقة ومن بعدهم.
حدّث عنه: الحافظ أبو عبد الله الحاكم، والحافظ عبد الغني، وتمّام بن محمّد الرّازي، والفقيه أبو حامد الإسفراييني، وأبو نصر بن الجندي، وأحمد بن الحسن الطّيّان، وأبو عبد الرحمن السُّلمي، وأبو مسعود الدِّمشقي، وأبو نُعَيم الأصبهانيّ، وأبو بكر البُرقاني، وأحمد بن محمّد بن الحارث الأصبهاني النحويّ، والقاضي أبو الطّيب الطّبري، وعبد العزيز بن علي الأزجي، وأبو بكر محمد بن عبد المَلك بن بشران، وأبو الحسين محمّد بن أحمد بن محمّد بن حسنون النّرسي، وحمزة بن يوسف السّهمي، وخلقٌ سواهم كثيرون.
مناقبه وثناء الأئمّة عليه:
كان من بحور العلم، ومن أئمّة الدُّنيا، حيث انتهى إليه الحفظ ومعرفة علل الحديث ورجاله، مع التّقدم في القراءات وطرقها، وقوّة المشاركة في الفقه والاختلاف والمغازي وأيام النّاس وغير ذلك.
صنّف التّصانيف، وسار ذكره في الدُّنيا، حتى قال عنه الخَطيب البغداديّ: "كان فريد عصره، وقريع دهره، ونسيجٌ وحده، وإمام وقته، انتهى إليه علم الأثر والمعرفة بعلل الحديث، وأسماء الرِّجال، وأحوال الرُّواة، مع الصِّدق والأمانة، والفقه والعدالة، وقبول الشّهادة، وصحّة الاعتقاد، وسلامة المذهب، والاضطلاع بعلوم سوى علم الحديث".
وقال الحاكم: "صار الدَّارَقُطْنِيّ أوحد عصره، في الحفظ والفهم والورع، وإمام القرّاء والنّحويين، وفي سنة سبع وستين أقمت ببغداد أربعة أشهر، وكثر اجتماعنا بالليل والنّهار، فصادفته فوق ما وُصِفَ لي، وسألته عن العلل والشُّيوخ".
وقال عنه ابن كثير: "الحافظ الكبير، أستاذ هذه الصّنعة، وقبله بمدة، وبعده، إلى زماننا هذا، سمع الكثير وصنّف وألَّف وأجاد وأفاد، وأحسن النّظر والتّعليل، والانتقاد والاعتقاد، وكان فريد عصره، ونسيج وحده، وإمام دهره، وكان مِنذ صِغره موصوفًا بالحفظ الباهر، والفهم الثّاقب، والبحر الزّاخر".
وقال عنه السُّبكي: "الإمام الجليل البغدادي الحافظ المشهور الاسم، صاحب المصنّفات، وإمام زمانه، وسيّد أهل عصره، وشيخ أهل الحديث".
وقفات مع سيرته:
أهمّ ما يمكن أن نقف عليه في حياة الإمام الجليل أبو الحسن عليّ بن عمر الدَّارَقُطْنِيّ - رحمه الله تعالى - :
- كثرة تلاوته للقرآن وحُسن صوته: كان يكثر من تلاوة كتاب الله تعالى، وكان حسن الصوت حتى تصدّر للإقراء في آخر حياته، حيث قال: "كنت أنا والكتّاني نسمع الحديث، فكانوا يقولون يخرج الكتاني مُحدّث البلد، ويخرج الدَّارَقُطْنِيّ مُقرئ البلد، فخرجت أنا مُحدّثًا، والكتّاني مُقرئًا"، وقال الذّهبي: "تصدّر في أواخر أيامه"، ووصفه الحاكم بقوله: "..وإمامًا في القراءة".
- ورعه وخشيته من الله تعالى: لا شك أن العلم الغزير الذي وهبه الله تعالى للإمام أبي الحسن يدل على تقوى الله عزّ وجلّ، ويدلّ على ورعه وخشيته لله تعالى، قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}؛ لذا وصفه الخطيب البغدادي بقوله: ".. مع الصّدق والأمانة، والفقه والعدالة، وصحّة الاعتقاد، وسلامة المذهب"، وقال عنه الحاكم: "صار الدَّارَقُطْنِيّ أوحد عصره في الحفظ والفهم والورع".
- تواضعه ومحبّة النّاس له: لم يكن تواضع الدَّارَقُطْنِيّ رحمه الله مُقتصرًا على شيوخه، بل كان هذا هو خلقُه وطبيعته، فقد كان يخفض جناحه لطلابه، الأمر الذي حبّبه إلى طُلابه، فأقبلوا عليه يسألونه ويقتبسون من علمه وخلقه، يقول منصور الطّرطوسي: "لمّا أراد الدَّارَقُطْنِيّ الخروج من عندنا من مصر، خرجنا نودّعه وبكينا، فقال لنا: تبكون وعندكم عبد الغني بن سعيد وفيه الخلف".
- ذكاؤه وحفظه: كان ذكاء الدَّارَقُطْنِيّ آية من آيات الله تعالى، منذ صغره حتى وفاته، لم يتغيّر ولم يتبدّل، قال ابن كثير: "وكان منذ صِغَره موصوفًا بالحفظ الباهر، والفهم الثّاقب، والبحر الزّاخر.."، وقال الأزهريّ: "كان الدَّارَقُطْنِيّ ذكيًا، إذا ذوكر شيئًا من العلم أي نوع كان، وُجد عنده منه نصيبٌ وافر"، وقال الخطيب: "سألت البرقاني: هل كان أبو الحسن الدَّارَقُطْنِيّ يُملي عليك «العلل» من حفظه؟ فقال: نعم، ثم شرح لي قصة جمع «العلل»، فقال: كان أبو منصور بن الكرخي يريد أن يصنّف مُسندًا معلّلاً، فكان يدفع أصوله إلى الدَّارَقُطْنِيّ فيعلّم له على الأحاديث المُعلّلة، ثم يدفعها أبو منصور إلى الورّاقين، فينقلون كل حديث منها في رقعة، فإذا أردتُ تعليق الدَّارَقُطْنِيّ على الأحاديث، نظر فيها أبو الحسن، ثم أملى علي الكلام من حفظه، فيقول: حديث الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود الحديث الفلاني، اتّفق فلان وفلان على روايته، وخالفهما فلان، ويذكر جميع ما في الحديث فأكتب كلامه في رقعة مفردة، وكنت أقول له لِمَ تنظر قبل إملائك الكلام في الأحاديث؟ فقال: أتذكر ما في حفظي بنظري"، قال الذّهبيّ: "قلت: إن كان كتاب «العلل» الموجود قد أملاه الدَّارَقُطْنِيّ من حفظه كما دلّت عليه هذه الحكاية، فهذا أمر عظيم، يقضى به للدارقطني أنه أحفظ أهل الدُّنيا".
وفاته:
تُوفِّي الإمام عليّ بن عمر الدَّارَقُطْنِيّ في الثّامن من ذي القَعدة سنةَ خمسٍ وثمانين وثلاثمائة من الهجرة، بعد حياة حافلة بخدمة الكتاب والسُّنة والدِّفاع عنهما، قولاً وعملاً، وتعليمًا وتأليفًا، وله من العمر تسعٌ وسبعون سنة، رحمه الله رحمة واسعة.