ولد الإمام الحافظ أبو عبد الرحمن بقيُّ بن مخلد بن يزيد الأندلسي بقرطبة في بلاد الأندلس في شهر رمضان سنة إحدى ومائتين من الهجرة، ونشأ بموطن ولادته ثم رحل لطلب الحديث، وعني بهذا الشأن عناية لا مزيد عليها، وكان له فضل كبير في إدخال علمٍ جمٍّ إلى جزيرة الأندلس، وساهم في جَعل تلك الناحية دار حديث.
سمع من أبي بكر بن أبي شيبة فأكثر، ومن: جبارة بن المغلس، ويحيى بن بشر الحريري، وشيبان بن فروخ، وسويد بن سعيد، وهدبة بن خالد، ومحمد بن رمح، وداود بن رشيد، ومحمد بن أبان الواسطي، وحرملة بن يحيى، وإسماعيل بن عبيد الحراني، ويعقوب بن حميد، وعيسى بن حماد زغبة، وسحنون بن سعيد الفقيه، وهريم بن عبد الأعلى، ومنجاب بن الحارث، وعثمان بن أبي شيبة، وعبيد الله القواريري، وأبي كريب، وبندار، وهناد، والفلاس، وكثير بن عبيد، وخلقٌ.
حدث عنه: ابنه أحمد، وأيوب بن سليمان المري، وأحمد بن عبد الله الأموي، وأسلم بن عبد العزيز، ومحمد بن وزير، ومحمد بن عمر بن لبابة، والحسن بن سعد الكناني، وعبد الله بن يونس المرادي القبري، وعبد الواحد بن حمدون، وهشام بن الوليد الغافقي، وآخرون.
مناقبه وثناء الأئمة عليه:
كان بقيُّ بن مخلد ورعاً فاضلاً زاهداً مجاب الدعوة، حتى قال عنه الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: "كان إماما مجتهدا صالحا، ربانيا صادقا مخلصا، رأسا في العلم والعمل، عديم المثل، منقطع القرين، يفتي بالأثر، ولا يقلد أحدا".
وقد بلغ عدة مشيخته الذين حمل عنهم مائتان وأربعة وثمانون رجلا، يقول عنه أحمد بن أبي خيثمة: "ما كنا نسميه إلا المكنسة، وهل احتاج بلدٌ فيه بقيُّ إلى أن يرحل إلى ها هنا منه أحد؟".
وقال الإمام ابن حزم بعد أن ذكر مصنفاته: "... فصارت تصانيف هذا الإمام الفاضل قواعد الإسلام لا نظير لها، وكان متخيرًا لا يقلد أحدًا، وكان ذا خاصة من أحمد بن حنبل، وجاريًا في مضمار البخاري ومسلم وأبي عبد الرحمن النَّسائيّ".
وقفات مع سيرته:
أهم ما يمكن أن نقف عليه في حياة الإمام بقيُّ بن مخلد بن يزيد الأندلسي - رحمه الله - :
- صبره وجَلَده في طلب العلم: كان يسافر بين البلدان لطلب الحديث مشيا على قدميه، قال أبو عبد الملك القرطبي: "كان بقيُّ بن مخلد قويا جلدا على المشي، لم يُر راكبا دابة قط، وكان ملازما لحضور الجنائز، متواضعا، وكان يقول: إني لأعرف رجلا كان تمضي عليه الأيام في وقت طلبه العلم، ليس له عيش إلا ورق الكرنب الذي يُرمى، وسمعت من كل من سمعت منه في البلدان ماشيا إليهم على قدمي".
- قربه من الله تعالى وإجابة دعوته: كان إماما ورعا فاضلا زاهدا صوّاما قوّاما، وقد ظهرت له إجابات الدعوة في غير ما شيء، منها ما رُوي أن امرأة جاءت إليه فقالت: إن ابني قد أسره الروم، ولا أقدر على مال أكثر من دويرة ولا أقدر على بيعها، فلو أشرت إلى من يفديه بشيء فإنه ليس لي ليلٌ ولا نهار ولا نوم ولا قرار، فقال: نعم، انصرفي حتى أنظر في أمره إن شاء الله، قال: وأطرق الشيخ، وحرك شفتيه، قال: فلبثنا مدة، فجاءت المرأة ومعها ابنها، فأخذت تدعو له وتقول: قد رجع سالماً وله حديثٌ يحدثك به، فقال الشاب: كنت في يدي بعض ملوك الروم مع جماعة من الأسارى، وكان له إنسانٌ يستخدمنا كل يوم، يخرجنا إلى الصحراء للخدمة، ثم يردنا وعلينا قيودنا، فبينا نحن نجيء من العمل بعد المغرب مع صاحبه الذي يحفظنا، فانفتح القيد من رجلي ووقع على الأرض - ووصف اليوم والساعة فوافق الوقت الذي جاءت المرأة ودعا الشيخ -، قال: فنهض إلي الذي كان يحفظني وصاح علي وقال: كسرت القيد؟ قلت: لا إنه سقط من رجلي، فتحير وأخر صاحبه وأحضر الحداد وقيدوني، فلما مشيت خطواتٍ سقط القيد من رجلي، فتحيروا في أمري! فدعوا رهبانهم فقالوا لي: ألك والدة؟ قلت: نعم، فقالوا: وافق دعاؤها الإجابة، وقالوا: أطلقك الله فلا نقيدك، فزودوني وأصحبوني إلى ناحية المسلمين.
- قصته مع الإمام أحمد بن حنبل: قال حاكيا عن نفسه: أتيت العراق وقد مُنِعَ أحمد بن حنبل من الحديث، فسألته أن يحدثني، وكان بيني وبينه خلة، فكان يحدثني بالحديث في زي السُّؤال، ونحن خلوة، حتى اجتمع لي عنه نحواً من ثلاث مائة حديث.
- جهاده في سبيل الله: كان من كبار المجاهدين في سبيل الله تعالى، حتى قيل أنه شهد سبعين غزوة.
وفاته:
توفي الإمام الرحالة بقيُّ بن مخلد بن يزيد الأندلسي ليلة الثلاثاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة ست وسبعين ومائتين من الهجرة، وعمره خمس وسبعون سنة, رحمه الله رحمة واسعة.