أعمالٌ كثيرةٌ تنتظر الذين يفيضون من مزدلفة تكتنفها المشّقة، فالحاج بعد أن أكمل مكوثاً في منىً، ووقوفاً في عرفة، ومبيتاً في مزدلفة، يعلم أنه يستقبل أعمالاً أُخر، يجتمع كثيرٌ منها في يومٍ واحد: رمي الجمار، وذبح الهدايا، والطواف، والسعي، ثم يأتي المبيت بـمنى ليالي التشريق وإكمال المناسك، وهذه هي المنظومة العباديّة التي يسلكها الحجّاج كلّهم، لا يتخلّف منهم واحد.
وإننا حين نعود إلى القرآن، وننظر إلى الرصد القرآني لهذه المنظومة العباديّة، نجد أن الله سبحانه وتعالى قد أحكم ميثاق هذه المنظومة وختمها بتوجيهٍ آخر وبعبادةٍ أخرى، لنتأمّل الآية الكريمة: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} (البقرة:199).
فهذه الإفاضة بما تستتبعها من عباداتٍ قد رُبطت بعبادة أخرى، وهي الاستغفار، ويبقى السؤال: ما هو سرّ هذا الارتباط؟.
لقد بيّن العلماء المعنى اللطيف الذي جاء لأجله هذا الأمر، فقد ذكروا أن هذه الإفاضة، بما تشتمل عليه من المناسك العباديّة، وبها تُختم أعمال الحج، استتبعتْ أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين باستغفاره والإكثار من ذكره عند الفراغ منها، والاستغفار مبعثه طلب الصفح من المعبود جلّ جلاله على ما حصل من الخلل الواقع في أداء العبادة، وما جرى فيها من الزلل والتقصير.
وهذه سُنّة ماضية، جرتْ في مناسك الحج كما في غيرها، وهي من علامات توفيق العبد، أنه كلما فرغ من عبادةٍ استغفر ربّه عن التقصير، وشكره على التوفيق، فكان حقيقاً أن يُلهم السداد، وأن ينال رضا ربّه ومولاه.
{واستغفروا الله}، هكذا أمر الحق تبارك وتعالى، وهكذا علّم النبي صلى الله عليه وسلم ختْم العبادات بها، أليس هو القائل: (ما من إنسان يكون في مجلس فيقول حين يريد أن يقوم: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في ذلك المجلس) رواه أحمد وأصحاب السنن بألفاظ مختلفة.
أليس هو -بأبي هو وأمّي- من استنصحه أبوبكر الصدّيق رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! علّمني دعاءً أدعو به في صلاتي، فقال له: (قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) رواه البخاري ومسلم.
هذا هو الاستغفار لمن تسمّى بالغفار، وأظهر الجميل، وستر القبيح، وأسبل السّتر على العصاة في الدنيا، فلم يفضحهم، وأمّلهم بالتّجاوز عن عقوبتهم في الآخرة، هذا هو الاستغفار الذي وُعد بحسن عاقبته العصاة والمذنبون: {ومن يعمل سوءً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً} (النساء:110)، وفي الحديث القدسي الشهير: (قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك، ولا أبالي) رواه الترمذي.
والحاجّ حينما يستغفر ربّه في كل وقتٍ وآن، فإن فضائل هذا الاستغفار ينبغي أن تظلّ ماثلةً أمام عينيه، فيتذكّر: (من قال أستغفر الله الّذي لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم وأتوب إليه (ثلاثا) غُفر له وإن كان فرّ من الزّحف) رواه الترمذي، ويتذكّر أنه سبب في نزول الغيث وحياة الأرض والبركة في المال والبنين: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً * يرسل السماء عليكم مدراراً * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا} (نوح:10-12)، وكذلك أنه سببٌ لتيسير الأمور، وتفريج الكروب: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كلّ ضيق مخرجاً، ومن كلّ همّ فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب) رواه الترمذي وأحمد.
وعبارات الاستغفار في السنّة جاءت متنوعة، وإن كانت ذات دلالة واحدة: طلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى، ومنها: "أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه" رواه الترمذي وأبو داود، وأما الصيغة التي هي بمنزلة التاج على الرأس والوسط من القلادة، فكانت أفضلها وأعظمها، ما أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله: (سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) ، ثم نبّه على الأجر المترتّب عليها، فقال: (من قالها في ليلة، فمات في ليلته دخل الجنة، ومن قالها في يومه، فمات دخل الجنة) رواه البخاري.
فهنيأً لمن حالفه التوفيق، فلزم الاستغفار بالليل والنهار، ولم يزل لسانه يلهج قائلاً: "اللهمّ اغفر لي ما قدّمت وما أخّرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به منّي، أنت المقدّم، وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير".