الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 306 ] [ ص: 307 ] [ ص: 308 ] [ ص: 309 ] بسم الله الرحمن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : ( إذا السماء انشقت ( 1 ) وأذنت لربها وحقت ( 2 ) وإذا الأرض مدت ( 3 ) وألقت ما فيها وتخلت ( 4 ) وأذنت لربها وحقت ( 5 ) ) .

يقول تعالى ذكره : إذا السماء تصدعت وتقطعت فكانت أبوابا .

وقوله : ( وأذنت لربها وحقت ) يقول : وسمعت السماوات في تصدعها وتشققها لربها وأطاعت له في أمره إياها ، والعرب تقول : أذن لك في هذا الأمر أذنا بمعنى : استمع لك ، ومنه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن " يعني بذلك : ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبي يتغنى بالقرآن ، ومنه قول الشاعر :


صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا



وأصل قولهم في الطاعة سمع له من الاستماع ، يقال منه : سمعت لك ، بمعنى سمعت قولك ، وأطعت فيما قلت وأمرت .

وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : ( وأذنت لربها ) قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن [ ص: 310 ] ابن عباس ، قوله : ( وأذنت لربها وحقت ) قال : سمعت لربها .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله : ( وأذنت لربها وحقت ) قال : سمعت وأطاعت .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( وأذنت لربها وحقت ) قال : سمعت .

حدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( وأذنت لربها وحقت ) قال : سمعت وأطاعت .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وأذنت لربها وحقت ) أي : سمعت وأطاعت .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وأذنت لربها وحقت ) قال : سمعت وأطاعت .

وقوله : ( وحقت ) يقول : وحقق الله عليها الاستماع بالانشقاق والانتهاء إلى طاعته في ذلك .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : ( وحقت ) قال : حققت لطاعة ربها .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير ( وحقت ) وحق لها .

وقوله : ( وإذا الأرض مدت ) يقول تعالى ذكره : وإذا الأرض بسطت ، فزيدت في سعتها .

كالذي حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، عن علي بن حسين ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا كان يوم القيامة مد الله [ ص: 311 ] الأرض حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه ، فأكون أول من يدعى ، وجبريل عن يمين الرحمن ، والله ما رآه قبلها ، فأقول : يا رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي ، فيقول : صدق ، ثم أشفع فأقول : يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض . - قال - : وهو المقام المحمود" .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( مدت ) قال : يوم القيامة .

وقوله : ( وألقت ما فيها وتخلت ) يقول جل ثناؤه : وألقت الأرض ما في بطنها من الموتى إلى ظهرها وتخلت منهم إلى الله .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وألقت ما فيها وتخلت ) قال : أخرجت ما فيها من الموتى .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وألقت ما فيها وتخلت ) قال : أخرجت أثقالها وما فيها .

وقوله : ( وأذنت لربها وحقت ) يقول : وسمعت الأرض في إلقائها ما في بطنها من الموتى إلى ظهرها أحياء أمر ربها وأطاعت ( وحقت ) يقول : وحققها الله للاستماع لأمره في ذلك ، والانتهاء إلى طاعته .

واختلف أهل العربية في موقع جواب قوله : ( إذا السماء انشقت ) ، وقوله : ( وإذا الأرض مدت ) فقال بعض نحويي البصرة : ( إذا السماء انشقت ) على معنى قوله : ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ) إذا السماء انشقت ، على التقديم والتأخير .

وقال بعض نحويي الكوفة : قال بعض المفسرين : جواب ( إذا السماء انشقت ) قوله : ( وأذنت ) قال : ونرى أنه رأي ارتآه المفسر ، وشبهه بقول الله تعالى : ( حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها ) لأنا لم نسمع جوابا بالواو في إذا مبتدأة ، ولا كلام قبلها ، [ ص: 312 ] ولا في إذا ، إذا ابتدئت . قال : وإنما تجيب العرب بالواو في قوله : حتى إذا كان ، وفلما أن كان ، لم يجاوزوا ذلك ; قال : والجواب في ( إذا السماء انشقت ) وفي ( إذا الأرض مدت ) كالمتروك ; لأن المعنى معروف قد تردد في القرآن معناه ، فعرف وإن شئت كان جوابه : يأيها الإنسان ، كقول القائل : إذا كان كذا وكذا ، فيا أيها الناس ترون ما عملتم من خير أو شر ، تجعل ( يا أيها الإنسان ) هو الجواب ، وتضمر فيه الفاء ، وقد فسر جواب ( إذا السماء انشقت ) فيما يلقى الإنسان من ثواب وعقاب ، فكأن المعنى : ترى الثواب والعقاب إذا السماء انشقت .

والصواب من القول في ذلك عندنا : أن جوابه محذوف ترك استغناء بمعرفة المخاطبين به بمعناه . ومعنى الكلام : ( إذا السماء انشقت ) رأى الإنسان ما قدم من خير أو شر ، وقد بين ذلك قوله : ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ) والآيات بعدها .

التالي السابق


الخدمات العلمية