الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 173 ] الفصل الثاني في ذكر الدرجات المذكورة في حديث معاذ: وهي ثلاث: أحدها: إطعام الطعام وقد جعله الله في كتابه من الأسباب الموجبة للجنة ونعيمها، قال الله عز وجل: ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا قواريرا من فضة قدروها تقديرا ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا عينا فيها تسمى سلسبيلا إلى قوله: وسقاهم ربهم شرابا طهورا فوصف فاكهتهم وشرابهم جزاء لإطعامهم الطعام . وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع، أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن سقى مؤمنا على ظمإ سقاه الله من الرحيق المختوم" وفي "المسند" و " الترمذي " عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أطعم الطعام، وأطاب الكلام، وصلى بالليل والناس نيام " .

                                                                                                                                                                                          وفي حديث عبد الله بن سلام الذي خرجه أهل السنن أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - أول قدومه المدينة يقول: "أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا [ ص: 174 ] الأرحام ،وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام " .

                                                                                                                                                                                          وفي حديث عبادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: " إيمان بالله وجهاد في سبيله وحج مبرور، وأهون من ذلك إطعام الطعام ولين الكلام " خرجه الإمام أحمد .

                                                                                                                                                                                          وفي حديث هانئ بن يزيد أن رجلا قال: يارسول الله، دلني على عمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال: " تطعم الطعام وتفشي السلام " . وفي حديث حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ختم له بإطعام مسكين دخل الجنة" .

                                                                                                                                                                                          وفي "الصحيحين " من حديث عبد الله بن عمرو أن رجلا قال: يا رسول الله، أي الإسلام خير؟ قال: "تطعم الطعام وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف " .

                                                                                                                                                                                          وفي حديث صهيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيركم من أطعم الطعام " خرجه الإمام أحمد . فإطعام الطعام يوجب دخول الجنة، ويباعد من النار، وينجي منها كما قال تعالى: فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة [ ص: 175 ] وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اتقوا النار ولو بشق تمرة" وكان أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - يقول لولده: اذكروا صاحب الرغيف، ثم ذكر أن رجلا من بني إسرائيل عبد الله سبعين سنة ثم إن الشيطان حسن في عينيه امرأة فأقام معها سبعة أيام ثم خرج هاربا فأقام مع مساكين فتصدق عليه برغيف، كان بعض أولئك المساكين يريده فآثره به ثم مات، فوزن عبادته بالسبعة الأيام التي مع المرأة فرجحت الأيام السبعة بعبادته، ثم وزن الرغيف بالسبعة الأيام فرجح بها .

                                                                                                                                                                                          ويتأكد إطعام الطعام للجائع وللجيران خصوصا، وفي "الصحيح " عن أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أطعموا الجائع وعودوا المريض وفكوا العاني " .

                                                                                                                                                                                          وفي "صحيح مسلم " عن أبي ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك " .

                                                                                                                                                                                          وفي المسند، وصحيح ابن حبان عن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما عرصة أصبح فيهم امرؤ جائعا، فقد برئت منهم ذمة الله عز وجل " . وقال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يشبع المؤمن دون جاره" . وفي "صحيح الحاكم " عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس بالمؤمن الذي يشبع وجاره جائع " وفي رواية: ما آمن من بات شبعان وجاره طاويا . فأفضل أنواع إطعام الطعام الإيثار مع الحاجة كما وصف الله تعالى [ ص: 176 ] بذلك الأنصار - رضي الله عنهم - فقال: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة وقد صح أن سبب نزولها أن رجلا منهم أخذ ضيفا من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - يضيفه فلم يجد عنده إلا قوت صبيانه، فاحتال هو وامرأته حتى نوما صبيانهما وقام إلى السراج كأنه يصلحه فأطفأه، ثم جلس مع الضيف يريه أنه يأكل معه ولم يأكل فلما غدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: "عجب الله من صنيعكما الليلة" ونزلت هذه الآية .

                                                                                                                                                                                          وكان كثير من السلف يؤثر بفطوره غيره وهو صائم ويصبح صائما . منهم عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، وداود الطائي، وعبد العزيز بن سليمان، ومالك بن دينار ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهم، وكان ابن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين وربما علم أن أهله قد ردوهم عنه فلم يفطر تلك الليلة .

                                                                                                                                                                                          ومنهم من كان لا يأكل إلا مع ضيف له . قال أبو السوار العدوي: كان رجال من بني عدي يصلون في المسجد ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد فأكله مع الناس وأكل الناس معه .

                                                                                                                                                                                          وكان منهم من يطعم إخوانه الطعام وهو صائم ويجلس يخدمهم . ويروحهم، منهم الحسن، وابن المبارك ، وكان ابن المبارك ربما يشتهي الشيء فلا يصنعه إلا لضيف ينزل به فيأكله مع ضيفه، وكان كثير منهم يفضل إطعام الإخوان على الصدقة على المساكين . وقد روي هذا المعنى مرفوعا من حديث أنس بإسناد ضعيف، ولاسيما إن كان الإخوان لا يجدون مثل ذلك الطعام .

                                                                                                                                                                                          كان بعضهم يعمل الأطعمة الفاخرة ثم يطعمها إخوانه الفقراء ويقول: إنهم [ ص: 177 ] لا يجدونها، وبعضهم يصنع له طعام ولا يأكل ويقول: إني لا أشتهيه وإنما صنعته لأجلكم، وبعضهم اتخذ حلاوة فأطعمها المعتوه، فقال له أهله: إن هذا لا يدري ما يأكل، فقال: لكن الله يدري .

                                                                                                                                                                                          واشتهى الربيع بن خثيم حلواء، فلما صنعت له دعا بالفقراء فأكلوا، فقال له أهله: أتعبتنا ولم تأكل ، فقال: ومن أكله غيري، وقال آخر منهم وجرى له نحو من ذلك: إذا أكلته كان في الحش وإذا أطعمته كان عند الله مدخورا .

                                                                                                                                                                                          وروي عن علي قال: لأن أجمع أناسا من إخواني على صاع من طعام أحب إلي من أن أدخل سوقكم هذه فأبتاع نسمة فأعتقها .

                                                                                                                                                                                          وعن أبي جعفر محمد بن علي قال: لأن أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعاما يشتهونه، أحب إلي من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل .

                                                                                                                                                                                          أأصف الإيثار لمن يبخل بأداء الحقوق الواجبة عليه، أأطلب الشجاعة من الجبان، وأستشهد على رؤية الهلال من هو من جملة العميان، كم بين من قيل فيه: فلما آتاهم من فضله بخلوا به وبين من قيل فيه: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة بيننا وبين القوم كما بين اليقظة والنوم .


                                                                                                                                                                                          لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد



                                                                                                                                                                                          فيا من يطمع في علو الدرجات من غير عمل صالح هيهات هيهات أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات


                                                                                                                                                                                          نزلوا بمكة في قبائل نوفل     ونزلت بالبيداء أبعد منزل



                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية