[ ص: 286 ] المسألة الثالثة
حيث يتعين
nindex.php?page=treesubj&link=22401الترجيح ، فله طريقان : أحدهما عام ، والآخر خاص .
فأما العام فهو المذكور في كتب الأصول ، إلا أن فيه موضعا يجب أن يتأمل ، ويحترز منه ، وذلك أن كثيرا من الناس تجاوزوا الترجيح بالوجوه الخالصة إلى الترجيح ببعض الطعن على المذاهب المرجوحة عندهم ، أو على أهلها القائلين بها ، مع أنهم يثبتون مذاهبهم ، ويعتدون بها ، ويراعونها ، ويفتون بصحة الاستناد إليهم في الفتوى ، وهو غير لائق بمناصب المرجحين ، وأكثر ما وقع ذلك في الترجيح بين المذاهب الأربعة ، وما يليها من مذهب
داود ونحوه ، فلنذكر هنا أمورا يجب التنبه لها :
أحدها : أن الترجيح بين الأمرين إنما يقع في الحقيقة بعد الاشتراك في الوصف الذي تفاوتا فيه ، وإلا فهو إبطال لأحدهما ، وإهمال لجانبه رأسا ، ومثل هذا لا يسمى ترجيحا ، وإذا كان كذلك ، فالخروج في ترجيح بعض المذاهب على بعض إلى القدح في أصل الوصف بالنسبة إلى أحد المتصفين - خروج عن نمط إلى نمط آخر مخالف له ، وهذا ليس من شأن العلماء ، وإنما الذي يليق بذلك الطعن والقدح في حصول ذلك الوصف لمن تعاطاه وليس من أهله ، والأئمة المذكورون برآء من ذلك فهذا النمط لا يليق بهم .
[ ص: 287 ] والثاني : أن الطعن في مساق الترجيح يبين العناد من أهل المذهب المطعون عليه ، ويزيد في دواعي التمادي والإصرار على ما هم عليه ؛ لأن الذي غض من جانبه مع اعتقاده خلاف ذلك حقيق بأن يتعصب لما هو عليه ، ويظهر محاسنه ، فلا يكون للترجيح المسوق هذا المساق فائدة زائدة على الإغراء بالتزام المذهب ، وإن كان مرجوحا ، فكأن الترجيح لم يحصل .
والثالث : أن هذا الترجيح مغر بانتصاب المخالف للترجيح بالمثل أيضا ، فبينا نحن نتتبع المحاسن صرنا نتتبع القبائح من الجانبين ، فإن النفوس مجبولة على الانتصار لأنفسها ، ومذاهبها ، وسائر ما يتعلق بها ، فمن غض من جانب صاحبه غض صاحبه من جانبه ، فكأن المرجح لمذهبه على هذا الوجه غاض من جانب مذهبه ، فإنه تسبب في ذلك كما في الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337750إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه ، قالوا : وهل يسب الرجل والديه ؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه . فهذا من ذلك .
وقد منع الله أشياء من الجائزات لإفضائها إلى الممنوع ، كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=104لا تقولوا راعنا [ البقرة : 104 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله الآية [ الأنعام : 108 ] ، وأشباه ذلك .
[ ص: 288 ] والرابع : أن هذا العمل مورث للتدابر والتقاطع بين أرباب المذاهب ، وربما نشأ الصغير منهم على ذلك حتى يرسخ في قلوب أهل المذاهب بغض من خالفهم فيتفرقوا شيعا ، وقد نهى الله تعالى عن ذلك وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=105ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا الآية [ آل عمران : 105 ] .
وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=159إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء [ الأنعام : 159 ] وقد مر تقرير هذا المعنى قبل ، فكل ما أدى إلى هذا ممنوع ، فالترجيح بما يؤدي إلى افتراق الكلمة وحدوث العداوة والبغضاء ممنوع .
ونقل
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري عن
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - وإن لم يصحح سنده - أنه لما أرسل
الحطيئة من الحبس في هجاء
الزبرقان بن بدر قال له : إياك والشعر ، قال : لا أقدر يا أمير المؤمنين على تركه ، مأكلة عيالي ، ونملة على لساني ، قال : فشبب بأهلك ، وإياك وكل مدحة مجحفة ، قال : وما هي ؟ قال : تقول بنو فلان خير من بني فلان ، امدح ولا تفضل ، قال : أنت يا أمير المؤمنين أشعر مني .
فإن صح هذا الخبر ، وإلا فمعناه صحيح ، فإن المدح إذا أدى إلى ذم الغير كان مجحفا ، والعوائد شاهدة بذلك .
والخامس : أن الطعن والتقبيح في مساق الرد أو الترجيح ربما أدى إلى
[ ص: 289 ] التغالي والانحراف في المذاهب زائدا إلى ما تقدم ، فيكون ذلك سبب إثارة الأحقاد الناشئة عن التقبيح الصادر بين المختلفين في معارض الترجيح والمحاجة .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي في بعض كتبه : أكثر الجهالة إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق ، أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلاء ، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء ، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة ، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها ، حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة ، ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستقرا في قلب مجنون فضلا عن قلب عاقل ، هذا ما قال ، وهو الحق الذي تشهد له العوائد الجارية .
[ ص: 290 ] وقد جاء في حديث الذي لطم وجه اليهودي القائل : والذي اصطفى
موسى على البشر - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غضب وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337956لا تفضلوا بين الأنبياء أو :
" لا تفضلوني على موسى " مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء بالتفضيل أيضا ، فذكر
المازري في تأويله عن بعض شيوخه أنه يحتمل أن يريد : لا تفضلوا بين أنبياء الله تفضيلا يؤدي إلى نقص بعضهم ، قال : وقد خرج الحديث على سبب ، وهو لطم الأنصاري وجه اليهودي ، فقد يكون - عليه الصلاة والسلام - خاف أن يفهم من هذه الفعلة انتقاص حق
موسى عليه السلام ، فنهى عن التفضيل المؤدي إلى نقص الحقوق ، قال
عياض : وقد يحتمل أن يقول هذا وإن علم بفضله عليهم وأعلم به أمته ، لكن نهاه عن الخوض فيه ، والمجادلة به ؛ إذ قد يكون ذلك ذريعة إلى
[ ص: 291 ] ذكر ما لا يحب منهم عند الجدال ، أو ما يحدث في النفس لهم بحكم الضجر والمراء ، فكان نهيه عن المماراة في ذلك كما نهى عنه في القرآن وغير ذلك . هذا ما قال ، وهو حق فيجب أن يعمل به فيما بين العلماء ، فإنهم ورثة الأنبياء .
[ ص: 286 ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
حَيْثُ يَتَعَيَّنُ
nindex.php?page=treesubj&link=22401التَّرْجِيحُ ، فَلَهُ طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا عَامٌّ ، وَالْآخِرُ خَاصٌّ .
فَأَمَّا الْعَامُّ فَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، إِلَّا أَنَّ فِيهِ مَوْضِعًا يَجِبُ أَنْ يُتَأَمَّلَ ، وَيُحْتَرَزَ مِنْهُ ، وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ تَجَاوَزُوا التَّرْجِيحَ بِالْوُجُوهِ الْخَالِصَةِ إِلَى التَّرْجِيحِ بِبَعْضِ الطَّعْنِ عَلَى الْمَذَاهِبِ الْمَرْجُوحَةِ عِنْدَهُمْ ، أَوْ عَلَى أَهْلِهَا الْقَائِلِينَ بِهَا ، مَعَ أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ مَذَاهِبَهُمْ ، وَيَعْتَدُّونَ بِهَا ، وَيُرَاعُونَهَا ، وَيُفْتُونَ بِصِحَّةِ الِاسْتِنَادِ إِلَيْهِمْ فِي الْفَتْوَى ، وَهُوَ غَيْرُ لَائِقٍ بِمَنَاصِبِ الْمُرَجِّحِينَ ، وَأَكْثَرُ مَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ ، وَمَا يَلِيهَا مِنْ مَذْهَبِ
دَاوُدَ وَنَحْوِهِ ، فَلْنَذْكُرْ هُنَا أُمُورًا يَجِبُ التَّنَبُّهُ لَهَا :
أَحَدُهَا : أَنَّ التَّرْجِيحَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ إِنَّمَا يَقَعُ فِي الْحَقِيقَةِ بَعْدَ الِاشْتِرَاكِ فِي الْوَصْفِ الَّذِي تَفَاوَتَا فِيهِ ، وَإِلَّا فَهُوَ إِبْطَالٌ لِأَحَدِهِمَا ، وَإِهْمَالٌ لِجَانِبِهِ رَأْسًا ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُسَمَّى تَرْجِيحًا ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ، فَالْخُرُوجُ فِي تَرْجِيحِ بَعْضِ الْمَذَاهِبِ عَلَى بَعْضٍ إِلَى الْقَدْحِ فِي أَصْلِ الْوَصْفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَحَدِ الْمُتَّصِفِينَ - خُرُوجٌ عَنْ نَمَطٍ إِلَى نَمَطٍ آخَرَ مُخَالِفٍ لَهُ ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعُلَمَاءِ ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَلِيقُ بِذَلِكَ الطَّعْنِ وَالْقَدْحِ فِي حُصُولِ ذَلِكَ الْوَصْفِ لِمَنْ تَعَاطَاهُ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَالْأَئِمَّةُ الْمَذْكُورُونَ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا النَّمَطُ لَا يَلِيقُ بِهِمْ .
[ ص: 287 ] وَالثَّانِي : أَنَّ الطَّعْنَ فِي مَسَاقِ التَّرْجِيحِ يُبَيِّنُ الْعِنَادَ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ الْمَطْعُونِ عَلَيْهِ ، وَيَزِيدُ فِي دَوَاعِي التَّمَادِي وَالْإِصْرَارِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي غَضَّ مِنْ جَانِبِهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ خِلَافَ ذَلِكَ حَقِيقٌ بِأَنْ يَتَعَصَّبَ لِمَا هُوَ عَلَيْهِ ، وَيُظْهِرَ مَحَاسِنَهُ ، فَلَا يَكُونُ لِلتَّرْجِيحِ الْمَسُوقِ هَذَا الْمَسَاقَ فَائِدَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ بِالْتِزَامِ الْمَذْهَبِ ، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا ، فَكَأَنَّ التَّرْجِيحَ لَمْ يَحْصُلْ .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا التَّرْجِيحَ مُغْرٍ بِانْتِصَابِ الْمُخَالِفِ لِلتَّرْجِيحِ بِالْمِثْلِ أَيْضًا ، فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَتَبَّعُ الْمَحَاسِنَ صِرْنَا نَتَتَبَّعُ الْقَبَائِحَ مِنَ الْجَانِبَيْنِ ، فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى الِانْتِصَارِ لِأَنْفُسِهَا ، وَمَذَاهِبِهَا ، وَسَائِرِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ، فَمَنْ غَضَّ مِنْ جَانِبِ صَاحِبِهِ غَضَّ صَاحِبُهُ مِنْ جَانِبِهِ ، فَكَأَنَّ الْمُرَجِّحَ لِمَذْهَبِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَاضٌّ مِنْ جَانِبِ مَذْهَبِهِ ، فَإِنَّهُ تَسَبَّبَ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337750إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ، قَالُوا : وَهَلْ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ . فَهَذَا مِنْ ذَلِكَ .
وَقَدْ مَنَعَ اللَّهُ أَشْيَاءَ مِنَ الْجَائِزَاتِ لِإِفْضَائِهَا إِلَى الْمَمْنُوعِ ، كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=104لَا تَقُولُوا رَاعِنَا [ الْبَقَرَةِ : 104 ] .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=108وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الْآيَةَ [ الْأَنْعَامِ : 108 ] ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ .
[ ص: 288 ] وَالرَّابِعُ : أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ مُورِثٌ لِلتَّدَابُرِ وَالتَّقَاطُعِ بَيْنَ أَرْبَابِ الْمَذَاهِبِ ، وَرُبَّمَا نَشَأَ الصَّغِيرُ مِنْهُمْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَرْسُخَ فِي قُلُوبِ أَهْلِ الْمَذَاهِبِ بُغْضُ مَنْ خَالَفَهُمْ فَيَتَفَرَّقُوا شِيَعًا ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=105وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ : 105 ] .
وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=159إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [ الْأَنْعَامِ : 159 ] وَقَدْ مَرَّ تَقْرِيرُ هَذَا الْمَعْنَى قَبْلُ ، فَكُلُّ مَا أَدَّى إِلَى هَذَا مَمْنُوعٌ ، فَالتَّرْجِيحُ بِمَا يُؤَدِّي إِلَى افْتِرَاقِ الْكَلِمَةِ وَحُدُوثِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ مَمْنُوعٌ .
وَنَقَلَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطَّبَرِيُّ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=2عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - وَإِنْ لَمْ يُصَحِّحْ سَنَدَهُ - أَنَّهُ لَمَّا أَرْسَلَ
الْحُطَيْئَةَ مِنَ الْحَبْسِ فِي هِجَاءِ
الزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ قَالَ لَهُ : إِيَّاكَ وَالشِّعْرَ ، قَالَ : لَا أَقْدِرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَرْكِهِ ، مَأْكَلَةُ عِيَالِي ، وَنَمْلَةٌ عَلَى لِسَانِي ، قَالَ : فَشَبِّبْ بِأَهْلِكَ ، وَإِيَّاكَ وَكُلَّ مِدْحَةٍ مُجْحِفَةٍ ، قَالَ : وَمَا هِيَ ؟ قَالَ : تَقُولُ بَنُو فُلَانٍ خَيْرٌ مِنْ بَنِي فُلَانٍ ، امْدَحْ وَلَا تُفَضِّلْ ، قَالَ : أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشْعَرُ مِنِّي .
فَإِنْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ ، وَإِلَّا فَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ ، فَإِنَّ الْمَدْحَ إِذَا أَدَّى إِلَى ذَمِّ الْغَيْرِ كَانَ مُجْحِفًا ، وَالْعَوَائِدُ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ .
وَالْخَامِسُ : أَنَّ الطَّعْنَ وَالتَّقْبِيحَ فِي مَسَاقِ الرَّدِّ أَوِ التَّرْجِيحِ رُبَّمَا أَدَّى إِلَى
[ ص: 289 ] التَّغَالِي وَالِانْحِرَافِ فِي الْمَذَاهِبِ زَائِدًا إِلَى مَا تَقَدَّمَ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبُ إِثَارَةِ الْأَحْقَادِ النَّاشِئَةِ عَنِ التَّقْبِيحِ الصَّادِرِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَعَارِضِ التَّرْجِيحِ وَالْمُحَاجَّةِ .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَالِيُّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ : أَكْثَرُ الْجَهَالَةِ إِنَّمَا رَسَخَتْ فِي قُلُوبِ الْعَوَامِّ بِتَعَصُّبِ جَمَاعَةٍ مِنْ جُهَّالِ أَهْلِ الْحَقِّ ، أَظْهَرُوا الْحَقَّ فِي مَعْرِضِ التَّحَدِّي وَالْإِدْلَاءِ ، وَنَظَرُوا إِلَى ضُعَفَاءِ الْخُصُومِ بِعَيْنِ التَّحْقِيرِ وَالِازْدِرَاءِ ، فَثَارَتْ مِنْ بَوَاطِنِهِمْ دَوَاعِي الْمُعَانَدَةِ وَالْمُخَالَفَةِ ، وَرَسَخَتْ فِي قُلُوبِهِمُ الِاعْتِقَادَاتُ الْبَاطِلَةُ ، وَتَعَذَّرَ عَلَى الْعُلَمَاءِ الْمُتَلَطِّفِينَ مَحْوُهَا مَعَ ظُهُورِ فَسَادِهَا ، حَتَّى انْتَهَى التَّعَصُّبُ بِطَائِفَةٍ إِلَى أَنِ اعْتَقَدُوا أَنَّ الْحُرُوفَ الَّتِي نَطَقُوا بِهَا فِي الْحَالِ بَعْدَ السُّكُوتِ عَنْهَا طُولَ الْعُمْرِ قَدِيمَةٌ ، وَلَوْلَا اسْتِيلَاءُ الشَّيْطَانِ بِوَاسِطَةِ الْعِنَادِ وَالتَّعَصُّبِ لِلْأَهْوَاءِ لَمَا وُجِدَ مِثْلُ هَذَا الِاعْتِقَادِ مُسْتَقِرًّا فِي قَلْبٍ مَجْنُونٍ فَضْلًا عَنْ قَلْبٍ عَاقِلٍ ، هَذَا مَا قَالَ ، وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ الْعَوَائِدُ الْجَارِيَةُ .
[ ص: 290 ] وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ الَّذِي لَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ الْقَائِلِ : وَالَّذِي اصْطَفَى
مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَضِبَ وَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337956لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ :
" لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى " مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَاءَ بِالتَّفْضِيلِ أَيْضًا ، فَذَكَرَ
الْمَازِرِيُّ فِي تَأْوِيلِهِ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ : لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ تَفْضِيلًا يُؤَدِّي إِلَى نَقْصِ بَعْضِهِمْ ، قَالَ : وَقَدْ خَرَجَ الْحَدِيثُ عَلَى سَبَبٍ ، وَهُوَ لَطْمُ الْأَنْصَارِيِّ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ ، فَقَدْ يَكُونُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَافَ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ هَذِهِ الْفِعْلَةِ انْتِقَاصُ حَقِّ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَنَهَى عَنِ التَّفْضِيلِ الْمُؤَدِّي إِلَى نَقْصِ الْحُقُوقِ ، قَالَ
عِيَاضٌ : وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولَ هَذَا وَإِنْ عَلِمَ بِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَأَعْلَمَ بِهِ أُمَّتَهُ ، لَكِنْ نَهَاهُ عَنِ الْخَوْضِ فِيهِ ، وَالْمُجَادَلَةِ بِهِ ؛ إِذْ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى
[ ص: 291 ] ذِكْرِ مَا لَا يُحَبُّ مِنْهُمْ عِنْدَ الْجِدَالِ ، أَوْ مَا يَحْدُثُ فِي النَّفْسِ لَهُمْ بِحُكْمِ الضَّجَرِ وَالْمِرَاءِ ، فَكَانَ نَهْيُهُ عَنِ الْمُمَارَاةِ فِي ذَلِكَ كَمَا نَهَى عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . هَذَا مَا قَالَ ، وَهُوَ حَقٌّ فَيَجِبُ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ فِيمَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ ، فَإِنَّهُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ .