فصل
وإذا كانت العوائد معتبرة شرعا ; فلا يقدح في اعتبارها انخراقها ما بقيت عادة على الجملة ، وإنما ينظر في انخراقها .
ومعنى انخراقها أنها تزول بالنسبة إلى جزئي ; فيخلفها في الموضع حالة ; إما من حالات الأعذار المعتادة في الناس ، أو من غير ذلك ، فإن كانت منخرقة بعذر ; فالموضع للرخصة ، وإن كانت من غير ذلك ; فإما إلى عادة أخرى دائمة بحسب الوضع العادي ، كما في البائل من جرح صار معتادا ; فهذا راجع إلى حكم العادة الأولى لا إلى حكم الرخص كما تقدم ، وإما إلى غير عادة ، أو
[ ص: 496 ] إلى عادة لا تخرم العادة الأولى ، فإن انخرقت إلى عادة أخرى لا تخرم العادة الأولى ، فظاهر أيضا اعتبارها لكن على وجه راجع إلى باب الترخص ، كالمرض المعتاد ، والسفر المعتاد بالنسبة إلى جمع الصلاتين والفطر والقصر ونحو ذلك ، وإن انخرقت إلى غير معتاد ; فهل يكون لها حكمها في نفسها ، أو تجري عليها أحكام العوائد التي تناسبها ؟
ولا بد من تمثيلها أولا ، ثم النظر في مجاري تلك الأحكام في الخوارق .
فمن ذلك توقف
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - عن إكراه من منع الزكاة ، وقوله لمن كتب له بذلك : " دعوه " .
وقصة
nindex.php?page=showalam&ids=15883ربعي بن حراش حين طلب
الحجاج ابنه ليقتله ; فسأله
الحجاج عن ابنه فأخبره ، والأب عارف بما يراد من ابنه .
[ ص: 497 ] وقصة
أبي حمزة الخراساني حين وقع في البئر ثم سد رأسها عليه ولم يستغث .
وحديث
أبي يزيد مع خديمه لما حضرهما
nindex.php?page=showalam&ids=16113شقيق البلخي nindex.php?page=showalam&ids=15390وأبو تراب النخشبي ; فقالا للخديم : كل معنا . فقال : أنا صائم . فقال
أبو تراب : كل ولك أجر صوم شهر ، فأبى . فقال
شقيق : كل ولك أجر صوم سنة ، فأبى . فقال
أبو يزيد : دعوا من سقط من عين الله . فأخذ ذلك الشاب في السرقة بعد سنة ،
[ ص: 498 ] وقطعت يده .
ومنه دخول البرية بلا زاد ، ودخول الأرض المسبعة ، وكلاهما من الإلقاء باليد إلى التهلكة .
فالذي يقال في هذا الموضع بعد العلم بأن ما خالف الشريعة غير صحيح أن هذه الأمور لا ينبغي حملها على المخالفة أصلا مع ثبوت دين أصحابها ، وورعهم وفضلهم وصلاحهم بناء على الأخذ بتحسين الظن في أمثالهم ، كما أنا مؤاخذون بذلك في سلفنا الصالح من الصحابة - رضي الله عنهم - وغيرهم ممن سلك في التقوى والفضل سبيلهم ، وإنما ينظر فيها بناء على أنها جارية على ما يسوغ شرعا .
وعند ذلك ; فلا يخلو ما بنوا عليه أن يكون غريبا من جنس العادي ، أو لا يكون من جنسه .
فإن كان الأول ; لحق بجنس أحكام العادات .
[ ص: 499 ] مثاله الأمر بالإفطار ; فإنه يمكن أن يكون مبنيا على رأي من يرى المتطوع أمير نفسه ، وهم الأكثر ; فتصير إباية التلميذ عن الإجابة عنادا واتباعا للهوى ، ومثل هذا مخوف العاقبة ، لا سيما بالنسبة إلى موافقة من شهر فضله وولايته ، وكذلك أمر
عمر بترك مانع الزكاة ، لعله كان نوعا من الاجتهاد ; إذ عامله معاملة المغفلين المطرحين في قواعد الدين ; ليزدجر بنفسه وينتهي عما هم به ، وكذلك وقع ; فإنه راجع نفسه وأدى الزكاة الواجبة عليه لا أنه أراد تركه جملة ، بل ليزجره بذلك أو يختبر حاله ، حتى إذا أصر على الامتناع أقام عليه ما يقام على الممتنعين .
ومثل ذلك قصة
nindex.php?page=showalam&ids=15883ربعي بن حراش فإنه حكي عنه أنه لم يكذب قط ; فلذلك سأله
الحجاج عن ابنه ، والصدق من عزائم العلم ، وإنما جواز الكذب رخصة يجوز أن لا يعمل بمقتضاها ، بل هو أعظم أجرا ; كما في النطق بكلمة الكفر وهي رأس الكذب ، وقد قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=119يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [ التوبة : 119 ] بعدما أخبر به من قصة الثلاثة الذين خلفوا ; فمدحهم الله بالتزام الصدق في موطن هو مظنة للرخصة ، ولكن أحمدوا أمرهم في طريق الصدق بناء على أن الأمن في طريق المخافة مرجو ؟ وقد قيل : " عليك بالصدق حيث تخاف أنه يضرك ; فإنه ينفعك ، ودع الكذب حيث ترى أنه ينفعك ; فإنه يضرك " ، وهو أصل صحيح شرعي .
ومثله قصة
أبي حمزة من باب الأخذ بعزائم العلم ; فإنه عقد على نفسه أن لا يعتمد على غير الله ; فلم يترخص ، وهو أصل صحيح ، ودل على
[ ص: 500 ] خصوص مسألته قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=3ومن يتوكل على الله فهو حسبه [ الطلاق : 3 ] ، ووكالة الله أعظم من وكالة غيره ، وقد قال
هود عليه الصلاة والسلام :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=55فكيدوني جميعا ثم لا تنظروني nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=56إني توكلت على الله ربي وربكم [ هود : 55 ] الآية ، ولما عقد
أبو حمزة عقدا طلب بالوفاء ; لقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=91وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم [ النحل : 91 ] .
وأيضا ; فإن بعض الأئمة نقل عنه أنه سمع أن أناسا بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يسألوا أحدا شيئا ; فكان أحدهم إذا وقع سوطه لا يسأل أحدا رفعه إليه ; فقال
أبو حمزة : رب ! إن هؤلاء عاهدوا نبيك إذا رأوه ، وأنا أعاهدك أن لا أسأل أحدا شيئا أبدا . قال : فخرج حاجا من
الشام يريد
مكة . . . إلى آخر الحكاية .
وهذا أيضا من قبيل الأخذ
nindex.php?page=treesubj&link=18465بعزائم العلم ; إذ عقد على نفسه مثل ما عقد من هو أفضل منه ; فليس بجار على غير الأصل الشرعي ، ولذلك لما حكى
ابن العربي الحكاية قال : " فهذا رجل عاهد الله ، فوجد الوفاء على التمام والكمال ; فبه فاقتدوا إن شاء الله تهتدوا " .
وكذلك دخول الأرض المسبعة ودخول البرية بلا زاد ; فقد تبين في كتاب الأحكام أن من الناس من يكون وجود الأسباب وعدمها عندهم سواء ; فإن الله هو مسبب الأسباب وخالق مسبباتها ; فمن كان هذا حاله ; فالأسباب عنده
[ ص: 501 ] كعدمها ، فلم يكن له مخافة من مخوف مخلوق ، [ ولا رجاء في مرجو مخلوق ] ; إذ لا مخوف ولا مرجو إلا الله ; فليس هذا إلقاء باليد إلى التهلكة ، وإنما كان يكون كذلك لو حصل في اعتقاده أنه إن لم يتزود هلك ، وإن قارب السبع هلك ، وأما إذا لم يحصل ذلك ; فلا ، على أنه قد شرط
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي في دخول البرية بلا زاد اعتياد الصبر والاقتيات بالنبات ، وكل هذا راجع إلى حكم عادي .
ولعلك تجد مخرجا في كل ما يظهر على أيدي الأولياء الذي ثبتت ولايتهم ، بحيث يرجع إلى الأحكام العادية ، بل لا تجده إن شاء الله إلا كذلك .
فَصْلٌ
وَإِذَا كَانَتِ الْعَوَائِدُ مُعْتَبَرَةً شَرْعًا ; فَلَا يُقْدَحُ فِي اعْتِبَارِهَا انْخِرَاقِهَا مَا بَقِيَتْ عَادَةً عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ فِي انْخِرَاقِهَا .
وَمَعْنَى انْخِرَاقِهَا أَنَّهَا تَزُولُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جُزْئِيٍّ ; فَيَخْلُفُهَا فِي الْمَوْضِعِ حَالَةٌ ; إِمَّا مِنْ حَالَاتِ الْأَعْذَارِ الْمُعْتَادَةِ فِي النَّاسِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَتْ مُنْخَرِقَةً بِعُذْرٍ ; فَالْمَوْضِعُ لِلرُّخْصَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ ; فَإِمَّا إِلَى عَادَةٍ أُخْرَى دَائِمَةٍ بِحَسَبِ الْوَضْعِ الْعَادِيِّ ، كَمَا فِي الْبَائِلِ مِنْ جُرْحٍ صَارَ مُعْتَادًا ; فَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى حُكْمِ الْعَادَةِ الْأُولَى لَا إِلَى حُكْمِ الرُّخَصِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِمَّا إِلَى غَيْرِ عَادَةٍ ، أَوْ
[ ص: 496 ] إِلَى عَادَةٍ لَا تَخْرِمُ الْعَادَةَ الْأُولَى ، فَإِنِ انْخَرَقَتْ إِلَى عَادَةٍ أُخْرَى لَا تَخْرِمُ الْعَادَةَ الْأُولَى ، فَظَاهِرٌ أَيْضًا اعْتِبَارُهَا لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ رَاجِعٍ إِلَى بَابِ التَّرَخُّصِ ، كَالْمَرَضِ الْمُعْتَادِ ، وَالسَّفَرِ الْمُعْتَادِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمْعِ الصَّلَاتَيْنِ وَالْفِطْرِ وَالْقَصْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَإِنِ انْخَرَقَتْ إِلَى غَيْرِ مُعْتَادٍ ; فَهَلْ يَكُونُ لَهَا حُكْمُهَا فِي نَفْسِهَا ، أَوْ تَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُ الْعَوَائِدِ الَّتِي تُنَاسِبُهَا ؟
وَلَا بُدَّ مِنْ تَمْثِيلِهَا أَوَّلًا ، ثُمَّ النَّظَرِ فِي مَجَارِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ فِي الْخَوَارِقِ .
فَمِنْ ذَلِكَ تَوَقُّفُ
nindex.php?page=showalam&ids=16673عُمَرَ بْنِ عَبْدَ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ إِكْرَاهِ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ ، وَقَوْلُهُ لِمَنْ كَتَبَ لَهُ بِذَلِكَ : " دَعُوهُ " .
وَقِصَّةُ
nindex.php?page=showalam&ids=15883رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ حِينَ طَلَبَ
الْحَجَّاجُ ابْنَهُ لِيَقْتُلَهُ ; فَسَأَلَهُ
الْحَجَّاجُ عَنِ ابْنِهِ فَأَخْبَرَهُ ، وَالْأَبُ عَارِفٌ بِمَا يُرَادُ مِنَ ابْنِهِ .
[ ص: 497 ] وَقِصَّةُ
أَبِي حَمْزَةَ الْخُرَاسَانِيِّ حِينَ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ ثُمَّ سَدَّ رَأْسَهَا عَلَيْهِ وَلَمْ يَسْتَغِثْ .
وَحَدِيثُ
أَبِي يَزِيدَ مَعَ خَدِيمِهِ لَمَّا حَضَرَهُمَا
nindex.php?page=showalam&ids=16113شَقِيقٌ الْبَلْخِيُّ nindex.php?page=showalam&ids=15390وَأَبُو تُرَابٍ النَّخْشَبِيُّ ; فَقَالَا لِلْخَدِيمِ : كُلْ مَعَنَا . فَقَالَ : أَنَا صَائِمٌ . فَقَالَ
أَبُو تُرَابٍ : كُلْ وَلَكَ أَجْرُ صَوْمِ شَهْرٍ ، فَأَبَى . فَقَالَ
شَقِيقٌ : كُلْ وَلَكَ أَجْرُ صَوْمِ سَنَةٍ ، فَأَبَى . فَقَالَ
أَبُو يَزِيدَ : دَعُوا مَنْ سَقَطَ مِنْ عَيْنِ اللَّهِ . فَأَخَذَ ذَلِكَ الشَّابُّ فِي السَّرِقَةِ بَعْدَ سَنَةٍ ،
[ ص: 498 ] وَقُطِعَتْ يَدَهُ .
وَمِنْهُ دُخُولُ الْبَرِّيَّةِ بِلَا زَادٍ ، وَدُخُولُ الْأَرْضِ الْمَسْبَعَةِ ، وَكِلَاهُمَا مِنَ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ .
فَالَّذِي يُقَالُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّ مَا خَالَفَ الشَّرِيعَةَ غَيْرُ صَحِيحٍ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ لَا يَنْبَغِي حَمْلُهَا عَلَى الْمُخَالَفَةِ أَصْلًا مَعَ ثُبُوتِ دِينِ أَصْحَابِهَا ، وَوَرَعِهِمْ وَفَضْلِهِمْ وَصَلَاحِهِمْ بِنَاءً عَلَى الْأَخْذِ بِتَحْسِينِ الظَّنِّ فِي أَمْثَالِهِمْ ، كَمَا أَنَّا مُؤَاخَذُونَ بِذَلِكَ فِي سَلَفِنَا الصَّالِحِ مِنَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ سَلَكَ فِي التَّقْوَى وَالْفَضْلِ سَبِيلَهُمْ ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ فِيهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا جَارِيَةٌ عَلَى مَا يُسَوَّغُ شَرْعًا .
وَعِنْدَ ذَلِكَ ; فَلَا يَخْلُو مَا بَنَوْا عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ غَرِيبًا مِنْ جِنْسِ الْعَادِيِّ ، أَوْ لَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِهِ .
فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ ; لَحِقَ بِجِنْسِ أَحْكَامِ الْعَادَاتِ .
[ ص: 499 ] مِثَالُهُ الْأَمْرُ بِالْإِفْطَارِ ; فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَى الْمُتَطَوِّعَ أَمِيرَ نَفْسِهِ ، وَهُمُ الْأَكْثَرُ ; فَتَصِيرُ إِبَايَةُ التِّلْمِيذِ عَنِ الْإِجَابَةِ عِنَادًا وَاتِّبَاعًا لِلْهَوَى ، وَمِثْلُ هَذَا مَخُوفُ الْعَاقِبَةِ ، لَا سِيَّمَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُوَافَقَةِ مَنْ شَهُرَ فَضْلُهُ وَوِلَايَتُهُ ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ
عُمَرَ بِتَرْكِ مَانِعِ الزَّكَاةِ ، لَعَلَّهُ كَانَ نَوْعًا مِنَ الِاجْتِهَادِ ; إِذْ عَامَلَهُ مُعَامَلَةَ الْمُغَفَّلِينَ الْمُطْرَحِينَ فِي قَوَاعِدِ الدِّينِ ; لِيَزْدَجِرَ بِنَفْسِهِ وَيَنْتَهِيَ عَمَّا هَمَّ بِهِ ، وَكَذَلِكَ وَقَعَ ; فَإِنَّهُ رَاجَعَ نَفْسَهُ وَأَدَّى الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ لَا أَنَّهُ أَرَادَ تَرْكَهُ جُمْلَةً ، بَلْ لِيَزْجُرَهُ بِذَلِكَ أَوْ يَخْتَبِرَ حَالَهُ ، حَتَّى إِذَا أَصَرَّ عَلَى الِامْتِنَاعِ أَقَامَ عَلَيْهِ مَا يُقَامُ عَلَى الْمُمْتَنِعِينَ .
وَمِثْلُ ذَلِكَ قِصَّةُ
nindex.php?page=showalam&ids=15883رِبْعِيٍّ بْنِ حِرَاشٍ فَإِنَّهُ حُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكْذِبْ قَطُّ ; فَلِذَلِكَ سَأَلَهُ
الْحَجَّاجُ عَنِ ابْنِهِ ، وَالصِّدْقُ مِنْ عَزَائِمِ الْعِلْمِ ، وَإِنَّمَا جَوَازُ الْكَذِبِ رُخْصَةٌ يَجُوزُ أَنْ لَا يُعْمَلَ بِمُقْتَضَاهَا ، بَلْ هُوَ أَعْظَمُ أَجْرًا ; كَمَا فِي النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ وَهِيَ رَأْسُ الْكَذِبِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=119يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [ التَّوْبَةِ : 119 ] بَعْدَمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ قِصَّةَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ; فَمَدَحَهُمُ اللَّهُ بِالْتِزَامِ الصِّدْقِ فِي مَوْطِنٍ هُوَ مَظِنَّةٌ لِلرُّخْصَةِ ، وَلَكِنْ أَحْمَدُوا أَمْرَهُمْ فِي طَرِيقِ الصِّدْقِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَمْنَ فِي طَرِيقِ الْمَخَافَةِ مَرْجُوٌّ ؟ وَقَدْ قِيلَ : " عَلَيْكَ بِالصِّدْقِ حَيْثُ تَخَافُ أَنَّهُ يَضُرُّكَ ; فَإِنَّهُ يَنْفَعُكَ ، وَدَعْ الْكَذِبَ حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ يَنْفَعُكَ ; فَإِنَّهُ يَضُرُّكَ " ، وَهُوَ أَصْلٌ صَحِيحٌ شَرْعِيٌّ .
وَمِثْلُهُ قِصَّةُ
أَبِي حَمْزَةَ مِنْ بَابِ الْأَخْذِ بِعَزَائِمَ الْعَلَمِ ; فَإِنَّهُ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ لَا يَعْتَمِدَ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ ; فَلَمْ يَتَرَخَّصْ ، وَهُوَ أَصْلٌ صَحِيحٌ ، وَدَلَّ عَلَى
[ ص: 500 ] خُصُوصِ مَسْأَلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=3وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [ الطَّلَاقِ : 3 ] ، وَوِكَالَةُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ وَكَالَةِ غَيْرِهِ ، وَقَدْ قَالَ
هُودٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=55فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=56إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ [ هُودٍ : 55 ] الْآيَةَ ، وَلَمَّا عَقَدَ
أَبُو حَمْزَةَ عَقْدًا طُلِبَ بِالْوَفَاءِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=91وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ [ النَّحْلِ : 91 ] .
وَأَيْضًا ; فَإِنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ نُقِلَ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَّ أُنَاسًا بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَنْ لَا يَسْأَلُوا أَحَدًا شَيْئًا ; فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا وَقَعَ سَوْطُهُ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا رَفَعَهُ إِلَيْهِ ; فَقَالَ
أَبُو حَمْزَةَ : رَبِّ ! إِنَّ هَؤُلَاءِ عَاهَدُوا نَبِيَّكَ إِذَا رَأَوْهُ ، وَأَنَا أُعَاهِدُكَ أَنْ لَا أَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا أَبَدًا . قَالَ : فَخَرَجَ حَاجًّا مِنَ
الشَّامِ يُرِيدُ
مَكَّةَ . . . إِلَى آخِرِ الْحِكَايَةِ .
وَهَذَا أَيْضًا مِنْ قَبِيلِ الْأَخْذِ
nindex.php?page=treesubj&link=18465بِعَزَائِمَ الْعِلْمِ ; إِذْ عَقَدَ عَلَى نَفْسِهِ مِثْلَ مَا عَقَدَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ ; فَلَيْسَ بِجَارٍ عَلَى غَيْرِ الْأَصْلِ الشَّرْعِيِّ ، وَلِذَلِكَ لَمَّا حَكَى
ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْحِكَايَةَ قَالَ : " فَهَذَا رَجُلٌ عَاهَدَ اللَّهَ ، فَوَجَدَ الْوَفَاءَ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ ; فَبِهِ فَاقْتَدُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَهْتَدُوا " .
وَكَذَلِكَ دُخُولُ الْأَرْضِ الْمَسْبَعَةِ وَدُخُولُ الْبَرِّيَّةِ بِلَا زَادٍ ; فَقَدْ تَبَيَّنَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ وُجُودُ الْأَسْبَابِ وَعَدَمُهَا عِنْدَهُمْ سَوَاءً ; فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ وَخَالِقُ مُسَبَّبَاتِهَا ; فَمَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ ; فَالْأَسْبَابُ عِنْدَهُ
[ ص: 501 ] كَعَدَمِهَا ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَخَافَةٌ مِنْ مَخُوفٍ مَخْلُوقٍ ، [ وَلَا رَجَاءٌ فِي مَرْجُوٍّ مَخْلُوقٍ ] ; إِذْ لَا مَخُوفَ وَلَا مَرْجُوَّ إِلَّا اللَّهُ ; فَلَيْسَ هَذَا إِلْقَاءٌ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ حَصَلَ فِي اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَتَزَوَّدْ هَلَكَ ، وَإِنْ قَارَبَ السَّبُعَ هَلَكَ ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ ; فَلَا ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ شَرَطَ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَالِيُّ فِي دُخُولِ الْبَرِّيَّةِ بِلَا زَادٍ اعْتِيَادَ الصَّبْرِ وَالِاقْتِيَاتِ بِالنَّبَاتِ ، وَكُلُّ هَذَا رَاجِعٌ إِلَى حُكْمٍ عَادِيٍّ .
وَلَعَلَّكَ تَجِدُ مَخْرَجًا فِي كُلِّ مَا يَظْهَرُ عَلَى أَيْدِي الْأَوْلِيَاءِ الَّذِي ثَبَتَتْ وِلَايَتُهُمْ ، بِحَيْثُ يُرْجَعُ إِلَى الْأَحْكَامِ الْعَادِيَّةِ ، بَلْ لَا تَجِدُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِلَّا كَذَلِكَ .