[ ص: 41 ] فصل : فأما
nindex.php?page=treesubj&link=16330شهادة الأعمى فيما يدرك بالسمع والبصر من العقود والإقرار ، فمردودة عندنا وغير مقبولة ، وبه قال من الصحابة
علي بن أبي طالب عليه السلام ، ومن التابعين
الحسن البصري ،
وسعيد بن جبير ، والنخعي ، ومن الفقهاء
سفيان الثوري ،
وأبو حنيفة ، وصاحباه ،
وسوار بن عبد الله القاضي من فقهاء
البصرة ، وأكثر فقهاء
الكوفة .
وقال
مالك : تقبل فيه شهادة الأعمى إذا عرف المشهود عليه بصوته الذي عرفه به على قديم الوقت وحديثه ، وبه قال من الصحابة
عبد الله بن عباس ، ومن التابعين
شريح ،
وعطاء ،
والزهري ، ومن الفقهاء
الليث بن سعد ،
وابن أبي ليلى ،
وداود ،
وابن جرير الطبري ، وحكي ذلك عن
المزني ، استدلالا بقول الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282واستشهدوا شهيدين من رجالكم [ البقرة : 282 ] . فكان على عمومه في البصير والأعمى ، ولأن نبي الله
شعيبا قد كان أعمى ، وقد نبه عليه
nindex.php?page=treesubj&link=28982قوله تعالى nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=91وإنا لنراك فينا ضعيفا [ هود : 91 ] . أي : ضريرا ،
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=91ولولا رهطك لرجمناك [ هود : 91 ] . أي : قومك ، وقال بعضهم أي : شيبتك البيضاء ، لأنه قد يحتشم لأجل الشيبة كما يحتشم لأجل رهطه ، فلما لم يمنع العمى من الشهادة على الله تعالى بالنبوة ، فأولى أن لا يمنع من الشهادة على المخلوقين بالأموال .
ولأن من صح أن يتحمل الشهادة في الأنساب والأملاك ، صح أن يتحملها في العقود والإقرار ، كالبصير .
ولأن الشهادة إذا افتقرت إلى حاسة لم يعتبر فيها حاسة أخرى ، لأن الأفعال لما افتقر فيها إلى البصر لم يعتبر فيها السماع ، والأنساب لما افتقرت إلى السماع لم يعتبر فيها البصر ، فوجب إذا افتقرت العقود إلى السماع أن لا يعتبر فيها المشاهدة ، لأن أصول الشهادة تمنع من الجمع بين حاستين ، ولأن الصور تختلف والأصوات تختلف ، فلما لم يمنع اختلاف الصور من الشهادة ، لم يمنع اختلاف الأصوات من الشهادة بها . ولأن الصوت يدل على معرفة المصوت كما يستدل الأعمى بصوت زوجته على إباحة الاستمتاع بها ، وكما يستدل بصوت المحدث على سماع الحديث منه وروايته عنه ، كذلك يستدل بصوت العاقد والمقر على جواز الشهادة عليهما وقد سمعت الصحابة الحديث من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن من وراء حجاب ، ولم تكن المشاهدة مع معرفة الصوت معتبرة .
ودليلنا قول الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=19وما يستوي الأعمى والبصير [ فاطر : 35 ] . فكان على عمومه إلا ما خصه دليل ، وقال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=36ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [ الإسراء : 36 ] ، فجمع في العلم بين السمع
[ ص: 42 ] والبصر في الإدراك ، وضم الفؤاد إليها في الإثبات ، فدل على استقرار العلم بجميعها فيما أدرك إثباته بها ، فاقتضى أن لا يستقر ببعضها ، لأنه يصير ظنا في محل اليقين ، ولأن شهادة البصير في الظلمة ، ومن وراء حائل - أثبت من شهادة الأعمى ، لأنه قد يتخيل من الأشخاص ببصره ما يعجز عنه الأعمى ، ثم لم تمض شهادة البصير في هذه الحال فأولى أن لا تمضي شهادة الأعمى المقصر عن هذه الحال .
ولأن الشهادة على العقد إذا عريت عن رؤية العاقد لم تصح كالشهادة بالاستفاضة ، ولأن من لم تصح منه الشهادة على الأفعال لم تصح الشهادة على العقود ، كالأخرس طردا والبصير عكسا .
ولأن الصوت يدل على المصوت كما يدل اللمس على الملموس ، فلما امتنعت الشهادة باللمس لاشتباه الملموس ، امتنعت بالصوت لاشتباه الأصوات .
وأما الاستدلال بعموم الآية فمخصوص بأدلتنا .
وأما الاستدلال بأنه لما لم يمنع من النبوة لم يمنع من الشهادة فقد اختلف في عمى
شعيب ، فأنكره بعضهم ، واعترف آخرون بحدوثه بعد الرسالة وسلم آخرون وجوده قبل أداء الرسالة ، وفرقوا بين النبوة والشهادة من وجهين :
أحدهما : أن إعجاز النبوة يوجب القطع بصحة شهادته ، وليس كذلك في غيره .
والثاني : أن في النبوة شهادة على مغيب فاستوى فيها الأعمى والبصير ، فخالف من عداه في الشهادة على مشاهد .
وأما الجواب عن جمعهم بين الأنساب والعقود ، فهو أن الأنساب لا تعلم قطعا ، فجاز أن تعلم بالاستدلال ، والعقود يمكن أن تعلم قطعا ، فلم يجز أن تعلم بالاستدلال كالأفعال .
وأما الجواب عن استدلالهم بأن ما أدرك بحاسة البصر لم يعتبر فيه غيرها ، فهو أن ما أدرك بأحدهما كان هذا حكمه ، وما أدرك بالحاستين اعتبرناهما فيه ، والعقود تدرك بهما فوجب أن يعتبرا فيها .
وأما الجواب عن استدلالهم بأن الصور تختلف كالأصوات فمن وجهين :
أحدهما : أن الصور تشتبه في المبادئ ثم تتحقق في الغايات ، والأصوات تشتبه في المبادئ والغايات .
والثاني : أن المصوت قد يحكي صوت غيره فيشتبه ، وفي الصور لا يمكن أن يحكي صورة غيره فلم يشتبه .
[ ص: 43 ] وأما الجواب عن استدلالهم بأن الصوت يدل على المصوت ، كما يستدل الأعمى بصوت زوجته عليها ، فهو أن الاستمتاع بالأزواج لخصوص الاستحقاق أوسع حكما من الشهادة ، لجواز الاستدلال عليها باللمس ، فجاز الاستدلال عليها بالصوت ، ويجوز أن يعتمد في الاستمتاع بالمزفوفة إليه على خبر ناقلها إليه ، وإن كان واحدا ، وذلك ممتنع في الشهادة ، وكذا الأخبار ينقلها الواحد عن الواحد ، ويقبل خبر المرأة الواحدة عن المرأة الواحدة ، وإن لم يقبل شهادة الواحدة عن الواحدة فافترقا .
[ ص: 41 ] فَصْلٌ : فَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=16330شَهَادَةُ الْأَعْمَى فِيمَا يُدْرِكُ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ مِنَ الْعُقُودِ وَالْإِقْرَارِ ، فَمَرْدُودَةٌ عِنْدَنَا وَغَيْرُ مَقْبُولَةٍ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ
الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ،
وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَالنَّخَعِيُّ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ
سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ،
وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَصَاحِبَاهُ ،
وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي مِنْ فُقَهَاءِ
الْبَصْرَةِ ، وَأَكْثَرُ فُقَهَاءِ
الْكُوفَةِ .
وَقَالَ
مَالِكٌ : تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْأَعْمَى إِذَا عَرَفَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِصَوْتِهِ الَّذِي عَرَفَهُ بِهِ عَلَى قَدِيمِ الْوَقْتِ وَحَدِيثِهِ ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَمِنَ التَّابِعِينَ
شُرَيْحٌ ،
وَعَطَاءٌ ،
وَالزُّهْرِيُّ ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ
اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ،
وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ،
وَدَاوُدُ ،
وَابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ ، وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ
الْمُزَنِيِّ ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=282وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [ الْبَقَرَةِ : 282 ] . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْبَصِيرِ وَالْأَعْمَى ، وَلِأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ
شُعَيْبًا قَدْ كَانَ أَعْمَى ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ
nindex.php?page=treesubj&link=28982قَوْلُهُ تَعَالَى nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=91وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا [ هُودٍ : 91 ] . أَيْ : ضَرِيرًا ،
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=91وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ [ هُودٍ : 91 ] . أَيْ : قَوْمُكَ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَيْ : شَيْبَتُكَ الْبَيْضَاءُ ، لِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَشَمُ لِأَجْلِ الشَّيْبَةِ كَمَا يُحْتَشَمُ لِأَجْلِ رَهْطِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعِ الْعَمَى مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالنُّبُوَّةِ ، فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ بِالْأَمْوَالِ .
وَلِأَنَّ مَنْ صَحَّ أَنْ يَتَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ فِي الْأَنْسَابِ وَالْأَمْلَاكِ ، صَحَّ أَنْ يَتَحَمَّلَهَا فِي الْعُقُودِ وَالْإِقْرَارِ ، كَالْبَصِيرِ .
وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ إِذَا افْتَقَرَتْ إِلَى حَاسَّةٍ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا حَاسَّةٌ أُخْرَى ، لِأَنَّ الْأَفْعَالَ لَمَّا افْتُقِرَ فِيهَا إِلَى الْبَصَرِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا السَّمَاعُ ، وَالْأَنْسَابُ لَمَّا افْتَقَرَتْ إِلَى السَّمَاعِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهَا الْبَصَرُ ، فَوَجَبَ إِذَا افْتَقَرَتِ الْعُقُودُ إِلَى السَّمَاعِ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ فِيهَا الْمُشَاهَدَةُ ، لِأَنَّ أُصُولَ الشَّهَادَةِ تَمْنَعُ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ حَاسَّتَيْنِ ، وَلِأَنَّ الصُّورَ تَخْتَلِفُ وَالْأَصْوَاتَ تَخْتَلِفُ ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعِ اخْتِلَافُ الصُّورِ مِنَ الشَّهَادَةِ ، لَمْ يَمْنَعِ اخْتِلَافُ الْأَصْوَاتِ مِنَ الشَّهَادَةِ بِهَا . وَلِأَنَّ الصَّوْتَ يَدُلُّ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُصَوِّتِ كَمَا يَسْتَدِلُّ الْأَعْمَى بِصَوْتِ زَوْجَتِهِ عَلَى إِبَاحَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا ، وَكَمَا يُسْتَدَلُّ بِصَوْتِ الْمُحَدِّثِ عَلَى سَمَاعِ الْحَدِيثِ مِنْهُ وَرِوَايَتِهِ عَنْهُ ، كَذَلِكَ يُسْتَدَلُّ بِصَوْتِ الْعَاقِدِ وَالْمُقِرِّ عَلَى جَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِمَا وَقَدْ سَمِعَتِ الصَّحَابَةُ الْحَدِيثَ مِنْ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ، وَلَمْ تَكُنِ الْمُشَاهَدَةُ مَعَ مَعْرِفَةِ الصَّوْتِ مُعْتَبَرَةً .
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=19وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [ فَاطِرٍ : 35 ] . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ إِلَّا مَا خَصَّهُ دَلِيلٌ ، وَقَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=36وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [ الْإِسْرَاءِ : 36 ] ، فَجَمَعَ فِي الْعِلْمِ بَيْنَ السَّمْعِ
[ ص: 42 ] وَالْبَصَرِ فِي الْإِدْرَاكِ ، وَضَمَّ الْفُؤَادَ إِلَيْهَا فِي الْإِثْبَاتِ ، فَدَلَّ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْعِلْمِ بِجَمِيعِهَا فِيمَا أُدْرِكَ إِثْبَاتُهُ بِهَا ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَسْتَقِرَّ بِبَعْضِهَا ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ ظَنًّا فِي مَحَلِّ الْيَقِينِ ، وَلِأَنَّ شَهَادَةَ الْبَصِيرِ فِي الظُّلْمَةِ ، وَمِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ - أَثْبَتُ مِنْ شَهَادَةِ الْأَعْمَى ، لِأَنَّهُ قَدْ يَتَخَيَّلُ مِنَ الْأَشْخَاصِ بِبَصَرِهِ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْأَعْمَى ، ثُمَّ لَمْ تَمْضِ شَهَادَةُ الْبَصِيرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَأَوْلَى أَنْ لَا تَمْضِيَ شَهَادَةُ الْأَعْمَى الْمُقَصِّرِ عَنْ هَذِهِ الْحَالِ .
وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الْعَقْدِ إِذَا عَرِيَتْ عَنْ رُؤْيَةِ الْعَاقِدِ لَمْ تَصِحَّ كَالشَّهَادَةِ بِالِاسْتِفَاضَةِ ، وَلِأَنَّ مَنْ لَمْ تَصَحَّ مِنْهُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَفْعَالِ لَمْ تَصِحَّ الشَّهَادَةُ عَلَى الْعُقُودِ ، كَالْأَخْرَسِ طَرْدًا وَالْبَصِيرِ عَكْسًا .
وَلِأَنَّ الصَّوْتَ يَدُلُّ عَلَى الْمُصَوِّتِ كَمَا يَدُلُّ اللَّمْسُ عَلَى الْمَلْمُوسِ ، فَلَمَّا امْتَنَعَتِ الشَّهَادَةُ بِاللَّمْسِ لِاشْتِبَاهِ الْمَلْمُوسِ ، امْتَنَعَتْ بِالصَّوْتِ لِاشْتِبَاهِ الْأَصْوَاتِ .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِعُمُومِ الْآيَةِ فَمَخْصُوصٌ بِأَدِلَّتِنَا .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْنَعْ مِنَ النُّبُوَّةِ لَمْ يُمْنَعْ مِنَ الشَّهَادَةِ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي عَمَى
شُعَيْبٍ ، فَأَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ ، وَاعْتَرَفَ آخَرُونَ بِحُدُوثِهِ بَعْدَ الرِّسَالَةِ وَسَلَّمَ آخَرُونَ وَجَوَّدَهُ قَبْلَ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالشَّهَادَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ إِعْجَازَ النُّبُوَّةِ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِصِحَّةِ شَهَادَتِهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ فِي النُّبُوَّةِ شَهَادَةً عَلَى مَغِيبٍ فَاسْتَوَى فِيهَا الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ، فَخَالَفَ مَنْ عَدَاهُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مُشَاهَدٍ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِمْ بَيْنَ الْأَنْسَابِ وَالْعُقُودِ ، فَهُوَ أَنَّ الْأَنْسَابَ لَا تُعْلَمُ قَطْعًا ، فَجَازَ أَنْ تُعْلَمَ بِالِاسْتِدْلَالِ ، وَالْعُقُودُ يُمْكِنُ أَنْ تُعْلَمَ قَطْعًا ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُعْلَمَ بِالِاسْتِدْلَالِ كَالْأَفْعَالِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ مَا أُدْرِكَ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ غَيْرُهَا ، فَهُوَ أَنَّ مَا أُدْرِكَ بِأَحَدِهِمَا كَانَ هَذَا حُكْمَهُ ، وَمَا أُدْرِكَ بِالْحَاسَّتَيْنِ اعْتَبَرْنَاهُمَا فِيهِ ، وَالْعُقُودُ تُدْرَكُ بِهِمَا فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَا فِيهَا .
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الصُّورَ تَخْتَلِفُ كَالْأَصْوَاتِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الصُّورَ تَشْتَبِهُ فِي الْمَبَادِئِ ثُمَّ تَتَحَقَّقُ فِي الْغَايَاتِ ، وَالْأَصْوَاتُ تَشْتَبِهُ فِي الْمَبَادِئِ وَالْغَايَاتِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُصَوِّتَ قَدْ يَحْكِي صَوْتَ غَيْرِهِ فَيُشْتَبَهُ ، وَفِي الصُّورِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْكِيَ صُورَةَ غَيْرِهِ فَلَمْ يُشْتَبَهْ .
[ ص: 43 ] وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الصَّوْتَ يَدُلُّ عَلَى الْمُصَوِّتِ ، كَمَا يَسْتَدِلُّ الْأَعْمَى بِصَوْتِ زَوْجَتِهِ عَلَيْهَا ، فَهُوَ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِالْأَزْوَاجِ لِخُصُوصِ الِاسْتِحْقَاقِ أَوْسَعُ حُكْمًا مِنَ الشَّهَادَةِ ، لِجَوَازِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِاللَّمْسِ ، فَجَازَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهَا بِالصَّوْتِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَزْفُوفَةِ إِلَيْهِ عَلَى خَبَرِ نَاقِلِهَا إِلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي الشَّهَادَةِ ، وَكَذَا الْأَخْبَارُ يَنْقُلُهَا الْوَاحِدُ عَنِ الْوَاحِدِ ، وَيُقْبَلُ خَبَرُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ عَنِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ عَنِ الْوَاحِدَةِ فَافْتَرَقَا .