الأثر السادس المترتب على الجناية : العفو ، وفيه بحثان .
البحث الأول ، في الصحيح منه والفاسد ، وفي الكتاب : ، وكذلك الخطأ إن حمله الثلث ، ومن قتل عمدا وله إخوة وجد ، فمن عفا منهم جازه ، ولا عفو للإخوة للأم ; لأنهم ليسوا عصبة ، وإن ثبت العمد ببينة جاز عفو البنين على البنات ; لأنهم أولو النصرة ، وليس لهن عفو ولا قيام ، فإن عفوا عن الدية دخل النساء فيها على فرائض الله ، وقضى منها ديته ، وإن عفا أحد البنين سقط حظه من الدية ، وبقيتها بين من بقي على الفرائض للزوجة وغيرها ; [ ص: 409 ] لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بتوريث امرأة للمقتول العفو عن قاتله عمدا أشيم الضبابي من دية زوجها ، وكذلك في هذا إذا وجب الدم بقسامة ، ولو أنه عفا عن الدية كانت له ولجميع الورثة على الموارث ، وإن عفا جميع البنين فلا شيء للنساء من الدية ; لعدم اعتبار من معهم ، وإنما لهن إذا عفا بعض البنين ، والإخوة والأخوات في درجة واحدة ; كالبنين والبنات فيما تقدم ، فإن كان الأخوات شقائق ، والإخوة للأب فلا عفو إلا باجتماعهم ; لأن الإخوة للأب معهن عصبة ، وإن اجتمع بنات وعصبة ، أو أخوات وعصبة ، قدم الطالب للقتل ; لأنه أصل العمد ، ولا عفو إلا باجتماعهم لاختصاص كل من الفريقين نصفه نقص وكمال ; إلا أن يعفو بعض البنات ، وبعض العصبة أو بعض الأخوات وبعض العصبة ، فيمتنع القتل ، كعفو أحد الابنين ، ولمن بقي الدية ، فإن طلب بعض البنات القتل ، وبعضهن العفو ، فإن عفا العصبة تم العفو ، أو طلبوا القتل فذلك لهم ; لأنهم أهل النصرة ، وسقطت البنات لانقسامهن ، وإن طلب بعض العصبة القتل ، وعفا الباقي ، امتنع القتل كأحد الابنين فإن اجتمع ابنة وأخت ، فالبنت أولى بالقتل أو العفو ; لأنه أقرب إن مات مكانه ، وإن عاش وأكل وشرب فليس لهما أن يقسما ; لأن النساء لا يقسمن في العمد ، ويقسم العصبة ، فإن أقسموا وطلبوا القتل وعفت الابنة فلا عفو لها ; لأن الدم ثبت بحلفهم ، أو أرادت القتل خطأ وليس له إلا ابنة وأخت أقسمتا وأخذتا الدية ; لأنهما يحلفان في المال . في النكت : ( إذا استحق الدم رجال ونساء في الدرجة سواء ، فلا مدخل للنساء في العفو ولا في القتل ، والنساء أقعد ) فلا عفو إلا بالاجتماع ، وإن كن ينفردن بالميراث ، أو استحق الدم بقسامة ، فلا عفو إلا بالاجتماع من اللاتي هن أقرب من النساء اللواتي يرثنه ومن العصبة ، ومتى استحق الدم ببينة فلا عفو للرجال ولا قتل ، قال ابن يونس : قال [ ص: 410 ] ابن القاسم : أولى الأولياء : الأولاد الذكور ، ولا حق للأب والجد معهم في عفو ولا قيام ، ( وإن كان من الأب والجد بنات ، فلا عفو لهن إلا به . ولا له إلا بهن ، ولا حق للأم مع الأب في عفو ولا قيام ) ولا حق للإخوة والأخوات مع الأب في عفو ولا قيام ، والأم والإخوة لا عفو لهم إلا بها ، ولا لها إلا بهم ، والأم والأخوات والعصبة إن اجتمعت الأم والعصبة على العفو جاز على الأخوات ، وإن عفا العصبة والأخوات فللأم القيام ، والأم والبنات والعصبة إن عفا البنات والعصبة جاز على الأم ، أو الأم والعصبة لم يجز إلا بعفو البنات ; لأنهن أقرب . وقال أشهب : ليس للجد مع الإخوة عفو ولا قيام ولا مع ابن الأخ كالولاء . قال عبد الملك : إن كان له ابن عبد فعتق بعد القتل فلا مدخل له مع الأولياء في دم ولا ميراث ، ولو ألحق بأبيه بعد القتل لدخل في الميراث ، وضابط هذا الباب : أنه متى كانوا رجالا في القعدد سواء قدم الداعي للعفو أو بعضهم أقرب ، فلا قول للأبعد في قول ولا قيام ، أو رجالا ونساء في القعدد سواء فلا قول للنساء في قتل ولا عفو ، والنساء أقرب ، فلا عفو إلا باجتماعهم . وإن أسلم ذمي أو رجل لا تعرف له عصبة فلبناته أن يقتلن ، فإن اختلفن في العفو والقتل اجتهد الإمام ، وإن قتل ابن الملاعنة ببينة فلأمه القتل . وعن مالك في أم وأخ وابن عم ، عفت الأم فلا عفو لها دونها ، والجد للأب أو الأم لا يجرى مجرى الأم في عفو ولا قيام . قال اللخمي : اختلف في الذين هم سواء في القعدد إذا بعدوا ; كالأعمام أو بني الأعمام : فعن مالك وابن القاسم : يقدم العامي كالبنين والإخوة ، وعن مالك : لا بد من اجتماعهم ; لضعف الحمية بسبب البعد ، والإخوة وبنوهم أحق من الأعمام ، فإن كان أحدهم أخا لأم هو كأحدهم عند ابن [ ص: 411 ] القاسم ، وقال أشهب : هو أحق ; لأنه أقعد بالأم ، والقولان جاريان في الولاء ، والرجل من الفخذ أو القبيل لا يعلم قعدده ولا ميراثه ، ليس له قيام ولا عفو ، ويقدم النسب على الولاء في القيام والعفو ، فإن لم يكن نسب فالمولى الأعلى ، فإن لم يكن فالسلطان دون المولى الأسفل ، واختلف عن مالك في النساء ; فعن مالك : لا مدخل لهن ، والمعروف عنه لهن وعليه هن ثلاث : البنات ، وبنات الابن وإن سفلن ، والأخوات دون بنيهن ، وفي الأم قولان : فمالك : لها القيام ، ومنعه أشهب ، ولا قيام لها مع الولد ، ولا مع الإخوة ، ولا مع السلطان ، ولا قيام لبني من ذكرنا ، والبنات أولى من بنات الابن ، وقدم ابن القاسم البنات على الأخوات . وقال أشهب : الأخوات عصبة البنات فلا عفو إلا بالجميع . وعلى قول ابن القاسم : بنات الابن أولى النساء ، لا تسقط الأم إلا مع الأب والولد الذكر ، فعلى هذا لا بد من الجميع في العفو ، وإذا اجتمع النساء والرجال فثلاثة أحوال : من أقرب ، أو أبعد ، أو في درجة ، فأبعد كالبنين وبنات الابن أو بني الابن والأخوات فيسقط النساء .
فرع
في الكتاب : إن ادعى القاتل أن الولي عفا فله تحليفه ، فإن حلف ردت اليمين على القاتل ، أو ادعى بينة غايبة على العفو : تلوم له ، وإن كان الأولياء أولادا صغارا وعصبة ، فللعصبة أن يقتلوا أو يأخذوا الدية ويعفون ، ويجوز على الصغار ; لعدم أهليتهم ، وليس لهم العفو على غير مال لحق الصغار في المال ، وكذلك من لم يجز عفو الأب إلا على الدية لا أقل منهم ، فإن عفا في الخطأ وتحمل الدية جاز في الملي ، وإلا فلا يجوز عفوه ، وكذلك العصبة ، وإن لم يكونوا أوصياء له ، وإن جرح الصبي عمدا وله وصي أو ولي ، فللوصي أن يقتص له ، وأما إن قتل فولاته أولى ; لذهاب الوصية بفوات المحل ، ولا يعفو الأب عن جرح ابنه [ ص: 412 ] الصغير إلا أن يعوضه من ماله ، ولا يعفو الوصي في ذلك إلا على مال على وجه النظر ، والعمد والخطأ سواء ، ولا يأخذ الأب أو الوصي أقل من الأرش إلا أن يكون الجارح عينا فيرى الأب أو الوصي من النظر صلحه على أقل من الأرش ، وإن قتل الصغير عبدا عمدا ، فأحب إلي أن يختار أبواه أو وصيه أخذ المال ; إذ لا نفع له في القصاص ، وإن عفا المقتول خطأ من ديته حاز في ثلثه ، وإن لم يكن له مال ، وأوصى مع ذلك بوصايا تحاصت العاقلة وأهل الوصايا في ثلث ديته ، وتورث الدية على الفرائض ، إلا أن يكون عليه دين فهو أحق . قال وجب لابنه الصغير دم عمد وخطأ ابن يونس : إن ادعى عليه العفو استحلفه يمينا واحدة .
البحث الثاني ، في . وفي الكتاب : إن عفا عنه سقط القتل ، وضرب مائة ، وحبس عاما ، كان القاتل رجلا أو امرأة ، مسلما أو ذميا ، والمقتول مسلم أو ذمي ، حر أو عبد لمسلم أو ذمي ، حر أو عبد ، وكذلك العبد يقتل وليك عمدا ، فيعفو عنه على أن يأخذه يضرب مائة ويحبس عاما ، وإن عفوت عنه ولم يشترط فكعفوك عن الحر ، ولا يشترط الدية ، لا شيء لك إلا أن يتبين أنك أدركتهما ، فتحلف بالله أنك ما عفوت إلا على أخذها ، وكذلك في العبد ، لا بد أن يعرف أنك عفوت لتسترقه ، فذلك لك ، ثم يخير سيده ; لأن العفو ظاهر في السقوط مطلقا ، وإن عفوت على أن تأخذه رقيقا وقال سيده : إما أن تقتله أو تدعه ، فلا قول له ، والعبد لك ; لأنك استحققته بدم وليك إلا أن يشاء سيده دفع الدية إليك ويأخذه . قال أحكام العفو ابن يونس : قال أصبغ : لا يحبس العبد ولا الأمة ، بل يجلدان كالزنا لحق الزوج والسيد ، وقوله في العبد : ذلك لك ويخير سيد هذا إذا ثبت قتله بالبينة ، فإن كان بإقرار العبد فليس له استجباره على أخذه إلا أن يقتله أو يدع ، للتهمة في الانتقال إليك . قال اللخمي : اختلف في العبد إن كان هو القاتل كما تقدم ، والنصراني إن كان المقتول . قال عبد الملك : إنما عليه الأدب [ ص: 413 ] دون الحبس والضرب ، وفي الكتاب : إن صولح قاتل العمد على أكثر جاز ; لأنه فداء ، وإن بقيت مهملة ففي مال القاتل مربعة .
فرع
قال ابن يونس : قال مالك : ; لقوله تعالى : ( قاتل العمد إذا طلبت منه الدية فأبى إلا أن يقتلوه ليس لهم إلا القتل كتب عليكم القصاص في القتلى ) ، ولقوله عليه السلام : ( ) وإن عفا بعضهم ، فنصيب غير العافي في مال الجاني ; لتعذر تبعيض القتل ، وإن طلبوا في جرح العمد الدية فليس لهم إلا القصاص إذا امتنع الجاني . وقاله العمد قود ابن القاسم ، وقال أشهب : ليس له الامتناع ; لأنه يجب عليه حفظ نفسه ، ويجبر على ذلك ولقوله عليه السلام : ( ) قال من قتل له قتيل فأهله بخير النظرين إن أحبوا قتلوا ، وإن أحبوا أخذوا الدية : إن عفا عن نصف الجرح وأمكن القصاص من نصفه اقتص ، وإن تعذر فالخيار للمجروح إن اختار ذلك أدى نصف عقل الجرح ، وإن أبى قيل للمجروح : إما أن يعفو وإما أن يقتص . وقال سحنون أشهب : يجبر على أن يعقل له النصف . وفي الجواهر : في موجب العمد روايتان : رواية ابن القاسم : القود ، ورواية أشهب : أحدهما ; فإن عفا الولي عنهما : صح ، أو عن الدية : فله القصاص ، أو قال : اخترت الدية ، سقط القود ، أو اخترت القود لم يسقط اختيار الدية ، بل له الرجوع إليها . وعلى رواية ابن القاسم وهي المشهورة : إن عفا على مال ثبت المال إن وافق الجاني ، وإن مات قبل الإقباض ثبت المال ، وإن عفا مطلقا سقط [ ص: 414 ] القصاص والدية ، وللمفلس العفو عن القصاص دون الدية ; لأنه ليس بمال ، وإن كان الوليان مفلسين فعفا أحدهما ، صح الأول دون الثاني إلا فيما زاد على مبلغ ديته .
فرع
في الجواهر : إذا أشهد أنه إن قتله فقد وهبه دمه ، فالأحسن أنه يقتل ; لأنه إسقاط ما لم يجب ، كالشفعة قبل البيع ، قاله ابن القاسم ، وفيه خلاف ، وإن أذن له أن يقطع ففعل ، لم يكن عليه سوى العقوبة ، وإن عفا عن جرحه العمد فنزى فيه فلأوليائه أن يقسموا ويقتلوا ; لأنه لم يعف عن النفس . قال أشهب إلا أن يقول : عفوت عن الجرح وعما يسري إليه وإن صالحه عن موضحة على مال فمات منها ، فللولي القسامة والقتل في العمد ، والدية في الخطأ على العاقلة ، ويردوا ما أخذوا لهم .
فرع
قال : إن ، فله تحليفه ، فإن حلف ردت اليمين على القاتل يمينا واحدة ; لأنها المردودة ، فيبرأ وإن ادعى بينة قريبة تلزم له الإمام . قال ادعى القاتل على رب الدم العفو أشهب : لا يمين على ولي الدم ; لأنها لا تكون في استحقاق الدم إلا خمسين يمينا ، وهذا أحسن بل أن يوجب عليه قسامة مع البينة أو مع قسامة أخرى قد كانت ، وإن قال القاتل : تحلف لي يمينا واحدة ، لم يكن ذلك له ; لأنه لو استحلفه فلما قدم للقتل قال : يحلف لي : ما عفا عني لم يكن له ذلك .
[ ص: 415 ] فرع
قال : إن قتل أحد الابنين أباه . وقتل الآخر أمه ، فلا قصاص عليهما ، ولكل واحد قتل الآخر ; لأن أحدهما ورث أباه ، والآخر ورث أمه فإن بادر أحدهما وقتل الآخر استوفى حقه ، ولورثة المقتول أن يقتلوا القاتل كمورثهم ، فإن تنازعوا في التقديم أيهما يقتل أولا اجتهد السلطان ، وإن عفا كل واحد عن صاحبه ، وجب لأحدهما دية أبيه وللآخر دية أمه ، وقال : يعفى عنهما جميعا ; لأنا إن قتلنا أحدهما ورث الآخر الدم فلا يقتل ، وكل واحد منهما يقول : يقتل قبلي حتى لا أقتل أنا ، فلا بد من العفو عنهما . سحنون
فرع
قال : ، وجب القصاص على قاتل الصغير ; لأن الثاني لما قتل الكبير ، ثبت القصاص عليه للثالث وللصغير ، فلما قتل الثالث الصغير ورثه الثاني وحده ، فورث ما كان له عليه من القصاص فسقط وسقطت حصة الشريك إلى نصف الدية ، وكان له قتل الثالث بالصغير ، وإن عفا كان له عليه الدية يقاصه بنصفها . أربعة إخوة قتل الثاني الكبير ، ثم قتل الثالث الصغير
فرع
في النوادر : قال أصبغ : إن فوض أمر دمه لوكيله فعفا ، وامتنع الولي أو العكس أو ثبت الدم ببينة قدم الوكيل في العفو والقتل ; لأنه خليفة الأصل ارتضاه لنفسه ، كالوصي ، أو بقسامة ، فالولي ; لأن الدم ثبت بقسامتهم ، وإن قال عند موته : لا يعفى [ ص: 416 ] عن قاتلي ، والدم ببينة ، فلا عفو للأولياء ; لأنه منع منه ، أو بقسامة فلهم العفو .
فرع
قال : قال مالك : إذا عفا أحد الأولياء في العمد ، ضمن للباقين نصيبهم من الدية .
فرع
قال : قال مالك : إذا قالوا : إنما عفونا على الدية فذلك لهم إن كان بالحضرة وإن قال فلا .
فرع
قال ابن القاسم : إن تاب وعرض نفسه على الأولياء فامتنعوا خشية الوالي ، فعرض الدية فامتنعوا أحب إلي أن يؤدي ديته إليهم ، ويعتق الرقاب ، ويتقرب بالدعاء والرغبة إلى الله تعالى ، ويحج ، ويكثر من العمل الصالح ما استطاع ، ويلحق بالثغور ، ويتصدق بما قدر عليه ويتعرض للعدو عساه أن يقتل في سبيل الله تعالى ، قال : قال مالك : إن قبلت دية العمد ورثت على كتاب الله تعالى النساء وغيرهن إلا القاتل ، وكذلك لا يرثه الأب إذا فعل فعل المدلجي بابنه .
قاعدة : التقادير الشرعية : إعطاء الموجود حكم المعدوم ، وإعطاء المعدوم حكم الموجود ، فالأول : كتقدير الملك الموجود من دم البراغيث اليسير ونحوه ، والمنافع الكائنة في المحرمات والعقود الماضية إذا تعقبها الفسخ ، يقدر ذلك [ ص: 417 ] معدوما لم يكن مع أنه كان . والثاني : كتقدير الملك المعدوم في الإعتاق عن الغير ، فإن ثبوت الولاء للمعتق عنه .
فرع
ملكه ، ولا ملك ، فيقدر الشرع ملكه قبل العتق بالزمن المقدر ، وكذلك الدية في العمد والخطأ توريثها .
فرع
ملك المورث لها ، ولم يملكها في الحياة ; لأنه مالك لنفسه حينئذ ، فلا يجمع له بين العوض والمعوض ، وملكها بعد متعذر لعدم أهليته ، فيقدر الشرع ملكه له قبل موته بالزمن الفرد ليصح التوريث ، وقد ورد به حديث امرأة أشيم الضبابي كما تقدم فيتعين التقدير .