فرع : : أركان الاستعارة ثلاثة
[ ص: 52 ] مستعار ، وهو لفظ المشبه به .
ومستعار منه ، وهو معنى لفظ المشبه .
ومستعار له ، وهو المعنى الجامع .
وأقسامها كثيرة باعتبارات :
فتنقسم باعتبار الأركان الثلاثة إلى خمسة أقسام .
أحدها : استعارة محسوس لمحسوس بوجه محسوس ، نحو : واشتعل الرأس شيبا [ مريم : 4 ] ، فالمستعار منه هو النار ، والمستعار له الشيب ، والوجه هو الانبساط ومشابهة ضوء النار لبياض الشيب ، وكل ذلك محسوس ، وهو أبلغ مما لو قيل : اشتعل شيب الرأس . لإفادة عموم الشيب لجميع الرأس .
ومثله : وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض [ الكهف : 99 ] ، أصل الموج حركة الماء ، فاستعمل في حركتهم على سبيل الاستعارة ، والجامع سرعة الاضطراب وتتابعه في الكثرة .
والصبح إذا تنفس [ التكوير : 18 ] ، استعير خروج النفس شيئا فشيئا لخروج النور من المشرق عند انشقاق الفجر قليلا قليلا ، بجامع التتابع على طريق التدريج ، وكل ذلك محسوس .
الثاني : استعارة محسوس لمحسوس بوجه عقلي .
قال ابن أبي الإصبع : وهي ألطف من الأولى ، نحو : وآية لهم الليل نسلخ منه النهار [ يس : 37 ] ، فالمستعار منه السلخ الذي هو كشط الجلد [ ص: 53 ] عن الشاة ، والمستعار له كشف الضوء عن مكان الليل وهما حسيان ، والجامع ما يعقل من ترتب أمر على آخر وحصوله عقب حصوله ، كترتب ظهور اللحم على الكشط وظهور الظلمة على كشف الضوء عن مكان الليل ، والترتب أمر عقلي . ومثله : فجعلناها حصيدا [ يونس : 24 ] ، أصل الحصيد النبات ، والجامع الهلاك ، وهو أمر عقلي .
الثالث : استعارة معقول لمعقول بوجه عقلي .
وقال ابن أبي الإصبع : وهي ألطف الاستعارات ، نحو : من بعثنا من مرقدنا [ يس : 52 ] ، المستعار منه الرقاد ؛ أي : النوم ، والمستعار له الموت ، والجامع عدم ظهور الفعل ، والكل عقلي . ومثله ولما سكت عن موسى الغضب [ الأعراف : 154 ] ، المستعار السكوت والمستعار منه الساكت والمستعار له الغضب .
الرابع : استعارة محسوس بوجه عقلي أيضا ، نحو : مستهم البأساء والضراء [ البقرة : 214 ] ، استعير المس وهو حقيقة في الأجسام وهو محسوس لمقاساة الشدة والجامع اللحوق وهما عقليان بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه [ الأنبياء : 18 ] ، فالقذف والدمغ مستعاران وهما محسوسان والحق والباطل مستعار لهما وهما معقولان ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس [ آل عمران : 112 ] ، استعير الحبل المحسوس للعهد وهو معقول فاصدع بما تؤمر [ الحجر : 94 ] ، استعير الصدع وهو كسر الزجاجة وهو محسوس للتبليغ وهو معقول والجامع التأثير وهو أبلغ من بلغ ، وإن كان بمعناه لأن تأثير الصدع أبلغ من تأثير التبليغ ، فقد لا يؤثر التبليغ ، والصدع يؤثر جزما [ ص: 54 ] واخفض لهما جناح الذل [ الإسراء : 24 ] ، قال الراغب : لما كان الذل على ضربين : ضرب يضع الإنسان ، وضرب يرفعه ، وقصد في هذا المكان ما يرفع ، استعير لفظ الجناح ، فكأنه قيل : استعمل الذل الذي يرفعك عند الله .
وكذا قوله : يخوضون في آياتنا [ الأنعام : 68 ] ، فنبذوه وراء ظهورهم [ آل عمران : 187 ] ، أفمن أسس بنيانه على تقوى [ التوبة : 109 ] ، ويبغونها عوجا [ الأعراف : 45 ] ، ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور [ الطلاق : 11 ] ، فجعلناه هباء منثورا [ الفرقان : 23 ] ، في كل واد يهيمون [ الشعراء : 225 ] ، ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك [ الإسراء : 29 ] ، كلها من استعارة المحسوس للمعقول والجامع عقلي .
الخامس : استعارة معقول لمحسوس والجامع عقلي أيضا ، نحو : إنا لما طغى الماء [ الحاقة : 11 ] ، المستعار منه التكثير وهو عقلي ، والمستعار له كثرة الماء وهو حسي ، والجامع الاستعلاء وهو عقلي أيضا ، ومثله : تكاد تميز من الغيظ [ الملك : 8 ] ، وجعلنا آية النهار مبصرة [ الإسراء : 12 ] .
أصلية : وهي ما كان اللفظ المستعار فيها اسم جنس كآية بحبل الله [ آل عمران : 103 ] ، وتنقسم باعتبار اللفظ إلى : من الظلمات إلى النور [ الطلاق : 11 ] ، في كل واد [ الشعراء : 225 ] .
وتبعية : وهي ما كان اللفظ فيها غير اسم جنس كالفعل والمشتقات كسائر الآيات السابقة وكالحروف ، نحو : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا [ القصص : 8 ] ، شبه ترتب العداوة والحزن على الالتقاط بترتب غلبة الغائية عليه ، ثم استعير في المشبه اللام الموضوعة للمشبه به .
وتنقسم باعتبار آخر إلى مرشحة ومجردة ومطلقة .
فالأولى وهي أبلغها : أن تقترن بما يلائم المستعار منه ، نحو : [ ص: 55 ] أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم [ البقرة : 16 ] ، استعير الاشتراء للاستبدال والاختبار ثم قرن بما يلائمه من الربح والتجارة .
والثانية : أن تقرن بما يلائم المستعار له ، نحو : فأذاقها الله لباس الجوع والخوف [ النحل : 112 ] ، استعير اللباس للجوع ثم قرن بما يلائم المستعار له من الإذاقة ، ولو أراد الترشيح لقال : فكساها . لكن التجريد هنا أبلغ لما في لفظ الإذاقة من المبالغة في الألم باطنا .
والثالثة : ألا تقرن بواحد منهما .
وتنقسم باعتبار آخر إلى تحقيقية ، وتخييلية ، ومكنية ، وتصريحية .
فالأولى : ما تحقق معناها حسا ، نحو : فأذاقها الله الآية ، أو عقلا ، نحو : وأنزلنا إليكم نورا مبينا [ النساء : 174 ] ؛ أي : بيانا واضحا وحجة لامعة اهدنا الصراط المستقيم [ فاتحة الكتاب : 6 ] ؛ أي : الدين الحق فإن كلا منها يتحقق عقلا .
والثانية : أن يضمر التشبيه في النفس فلا يصرح بشيء من أركانه سوى المشبه ، ويدل على ذلك التشبيه المضمر في النفس بأن يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به ويسمى ذلك التشبيه المضمر استعارة بالكناية ومكنيا عنها ; لأنه لم يصرح به ، بل دل عليه بذكر خواصه . ويقابله التصريحية ويسمى إثبات ذلك الأمر المختص بالمشبه به للمشبه استعارة تخييلية ; لأنه قد استعير للمشبه ذلك الأمر المختص بالمشبه به ، وبه يكون كمال المشبه به وقوامه في وجه الشبه لتخيل أن المشبه من جنس المشبه به .
ومن أمثلة ذلك الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه [ البقرة : 27 ] ، شبه الميثاق بالحبل وأضمر في النفس فلم يصرح بشيء من أركان التشبيه سوى العهد المشبه ودل عليه بإثبات النقض الذي هو من خواص المشبه به وهو الحبل ، وكذا واشتعل الرأس شيبا [ مريم : 4 ] ، طوى ذكر المشبه به وهو النار ودل عليه بلازمه وهو الاشتعال فأذاقها الله [ النحل : 112 ] ، الآية . شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من [ ص: 56 ] طعم المر ، فأوقع عليه الإذاقة ختم الله على قلوبهم [ البقرة : 7 ] ، شبهها في أن لا تقبل الحق بالشيء الموثوق المختوم ثم أثبت لها الختم .
جدارا يريد أن ينقض [ الكهف : 77 ] ، شبه ميلانه للسقوط بانحراف الحي فأثبت له الإرادة التي هي من خواص العقلاء .
ومن التصريحية آية : مستهم البأساء [ البقرة : 214 ] ، من بعثنا من مرقدنا [ يس : 52 ] .
وتنقسم باعتبار آخر إلى :
وفاقية : بأن يكون اجتماعهما في شيء ممكنا ، نحو : أومن كان ميتا فأحييناه [ الأنعام : 122 ] ؛ أي : ضالا فهديناه . استعير الإحياء من جعل الشيء حيا للهداية التي بمعنى الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب ، والإحياء والهداية مما يمكن اجتماعهما في شيء .
وعنادية : وهي ما لا يمكن اجتماعهما في شيء ، كاستعارة اسم المعدوم للموجود لعدم نفعه ، واجتماع الوجود والعدم في شيء ممتنع .
ومن العنادية : التهكمية والتمليحية ، وهما ما استعمل في ضد أو نقيض ، نحو : فبشرهم بعذاب أليم [ آل عمران : 21 ] ؛ أي : أنذرهم ، استعيرت البشارة وهي الإخبار بما يسر للإنذار الذي هو ضده بإدخال جنسها على سبيل التهكم والاستهزاء ، نحو : إنك لأنت الحليم الرشيد [ هود : 87 ] ، عنوا الغوي السفيه تهكما ذق إنك أنت العزيز الكريم [ الدخان : 49 ] .
وتنقسم باعتبار آخر إلى :
تمثيلية ، وهي أن يكون وجه الشبه فيها منتزعا من متعدد ، نحو : واعتصموا بحبل الله جميعا [ آل عمران : 103 ] ، شبه استظهار العبد بالله ووثوقه بحمايته والنجاة من المكاره ، باستمساك الواقع في مهواة بحبل وثيق مدلى من مكان مرتفع يأمن انقطاعه .
تنبيه : قد تكون الاستعارة بلفظين ، نحو : قوارير قوارير من فضة [ الإنسان : 15 ، 16 ] ، يعني تلك الأواني ليست من الزجاج ولا من الفضة ، بل في صفاء القارورة وبياض الفضة .
فصب عليهم ربك سوط عذاب [ الفجر : 13 ] ، فالصب كناية عن الدوام ، والسوط [ ص: 57 ] عن الإيلام ، فالمعنى : عذبهم عذابا دائما مؤلما .
فائدة : ، وقوم : إطلاقها في القرآن ؛ لأن فيها إيهاما للحاجة ، ولأن لم يرد في ذلك إذن من الشرع ، وعليه أنكر قوم الاستعارة بناء على إنكارهم المجاز . القاضي عبد الوهاب المالكي
وقال : إن أطلق المسلمون الاستعارة فيه أطلقناها ، وإن امتنعوا امتنعنا ، ويكون هذا من قبيل ( إن الله عالم ) والعلم هو العقل ، ثم لا نصفه به لعدم التوقيف . انتهى . الطرطوشي
فائدة ثانية : تقدم أن ، واتفق البلغاء على أن الاستعارة أبلغ منه ؛ لأنها مجاز ، وهو حقيقة ، والمجاز أبلغ ، فإذا التشبيه من أعلى أنواع البلاغة وأشرفها ، وكذا الكناية أبلغ من التصريح ، والاستعارة أبلغ من الكناية ، كما قال في عروس الأفراح : إنه الظاهر ؛ لأنها كالجامعة بين كناية واستعارة ، ولأنها مجاز قطعا . الاستعارة أعلى مراتب الفصاحة
وفي الكناية خلاف .
التمثيلية كما يؤخذ من الكشاف ويليها المكنية صرح به وأبلغ أنواع الاستعارة الطيبي لاشتمالها على المجاز العقلي .
والترشيحية أبلغ من المجردة والمطلقة ، والتخييلية أبلغ من التحقيقية ، والمراد بالأبلغية إفادة زيادة التأكيد والمبالغة في كمال التشبيه لا زيادة في المعنى لا توجد في غير ذلك .