[ ص: 49 ] فصل
في بعض
فمنه : حروف الإدغام عن ما نهوا عنه ( الأعراف : 166 ) ، فرد ظهر فيه النون وقطع عن الوصل ; لأن معنى " ما " عموم كلي تحته أنواع مفصلة في الوجود غير متساوية في حكم النهي عنها ، ومعنى " عن " المجاوزة للكلي ، والمجاوزة للكلي مجاوزة لكل واحد من جزئياته ، ففصل علامة لذلك .
وكذلك : " من ما " ثلاثة أحرف مفصولة لا غير .
في النساء : من ما ملكت أيمانكم ( الآية : 25 ) ، وفى الروم : هل لكم من ما ملكت أيمانكم ( الروم : 28 ) ، وفي المنافقين : وأنفقوا من ما رزقناكم ( الآية : 10 ) .
وحرف ما في هذه كلها مقسم في الوجود بأقسام منفصلة غير متساوية في الأحكام ، وهى بخلاف قوله : مما كتبت أيديهم ( البقرة : 79 ) فإنها وإن كان تحتها أقسام كثيرة فهي غير مختلفة في وصفها بكتب أيديهم ، فهو نوع واحد يقال على معنى واحد من تلك الجهة هو في إفراده بالسوية .
وكذلك " أم من " بالفصل ، أربعة أحرف لا غير ; في النساء : أم من يكون عليهم وكيلا ( الآية : 109 ) ، وفى التوبة : أم من أسس بنيانه ( الآية : 109 ) ، وفي الصافات : أم من خلقنا ( الصافات : 11 ) وفى السجدة أم من يأتي ( فصلت : 40 ) .
فهذه الأربعة الأحرف " من " فيها تقسم في الوجود بأنواع مختلفة في الأحكام بخلاف غيرها مثل : أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي ( الملك : 22 ) فهذا موصول لأنه من نوع واحد حيث يمشي على صراط مستقيم ، وكذا : أمن جعل الأرض قرارا ( النمل : 61 ) لا تفاصيل تحتها في الوجود .
وكذلك : ( عن من ) مفصول : حرفان في النور : عن من يشاء ( الآية : 43 ) ، وفي النجم : عن من تولى ( الآية : 29 ) : حرف " من " فيهما كلي ، وحرف " عن " للمجاوزة ، [ ص: 50 ] والمجاوزة عن الكلي مجاوزة لجميع جزئياته دون العكس ; فلا وصلة بين الجزأين في الوجود فلا يوصلان في الخط .
وكذلك " ممن " موصول كله ; لأن " من " بفتح الميم جزئي بالنسبة إلى " ما " ، فمعناه أزيد من جهة المفهوم ، ومعنى " ما " أزيد من جهة العموم ، والزائد من جهة المفهوم منفصل وجودا بالحصص ، والحصة منه لا تنفصل ، والزائد من جهة المفهوم لا ينفصل وجودا .
وكذلك : وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم في سورة الرعد ( الآية : 40 ) ، فردة مفصولة ظهر فيها حرف الشرط في الخط لوجهين : أحدهما : أن الجواب المرتب عليه بالفاء ظاهر في موطن الدنيا ، وهو " البلاغ " بخلاف قوله : فإما نرينك ( غافر : 77 ) ، فإنه أخفى فيه حرف الشرط في الخط ; لأن الجواب المرتب عليه بالفاء خفي عنا ، وهو الرجوع إلى الله ، والثاني : أن القصة الأولى منفصلة من الشرط وجوابه ، وانقسم الجواب إلى جزأين ; أحدهما : الترتيب بالفاء وهو البلاغ ، والثاني : المعطوف عليه ، وهو الحساب ; وأحدهما في الدنيا ، والآخر في الآخرة ; والأول ظاهر لنا ، والثاني خفي عنا .
وهذا الانقسام صحيح في الوجود فقد انقسمت هذه الشرطية إلى شرطين ، لانفصال جوابها إلى قسمين متغايرين ، ففصل حرف الشرط علامة لذلك ، وإذا انفصلت لزم كتبه على الوقف ، والشرطية الأخرى لا تنفصل ، بل هي واحدة لاتحاد جوابها ، فانفصال حرف الشرط علامة لذلك .
وكذلك : فإن لم يستجيبوا لك فرد في القصص ( الآية : 50 ) ثابت النون ، وفى هود : " " فإلم يستجيبوا لكم " " فرد بغير نون أظهر حرف الشرط في الأول ; لأن جوابه المترتب عليه بالفاء هو : فاعلم ( القصص : 50 ) متعلق بشيء ملكوتي ظاهر سفلي ، وهو اتباعهم أهواءهم وأخفي في الثاني ; لأن جوابه المترتب عليه بالفاء هو علم متعلق بشيء ملكوتي خفي علوي وهو إنزال القرآن بالعلم والتوحيد .
[ ص: 51 ] ومن ذلك : " أن لن " كله مفصول إلا حرفان : ألن نجعل لكم موعدا في الكهف ( الآية : 48 ) ، ألن نجمع عظامه في القيامة ( الآية : 3 ) ، سقطت النون منهما في الخط تنبيها على أن ما زعموا وحسبوا هو باطل في الوجود وحكم ما ليس بمعلوم نسبوه إلى الحي القيوم ، فأدغم حرف توكيدهم الكاذب في حرف النفي السالب هو بخلاف قوله زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا ( التغابن : 7 ) فهؤلاء لم ينسبوا ذلك لفاعل ; إذ ركب الفعل لما لم يسم فاعله ، وأقيموا فيه مقام الفاعل ، فعدم بعثهم تصوروه من أنفسهم ، وحكموا به عليها توهما ، فهو كاذب من حيث حكموا به على مستقبل الآخرة ، ولكونه حقا بالنسبة إلى دار الدنيا الظاهرة ثبت التوكيد ظاهرا ، وأدغم في حرف النفي من حيث الفعل المستقبل الذي هو فيه كاذب .
ومن ذلك كل ما في القرآن " أن لا " فهو موصول إلا عشرة مواضع فهي مفصولة تكتب النون فيها باتفاق ، وذلك حيث ظهر في الوجود صحة توكيد القضية ولزومها .
أولها في الأعراف : أن لا أقول على الله إلا الحق ( الآية : 105 ) و أن لا يقولوا على الله إلا الحق ( الآية : 169 ) و أن لا ملجأ من الله في التوبة ( الآية : 118 ) . أن لا إله إلا هو ( الآية : 14 ) و أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف ( الآية : 26 ) في هود .
و أن لا تشرك بي شيئا في الحج ( الآية : 26 ) و أن لا تعبدوا الشيطان في يس ( الآية : 60 ) و وأن لا تعلوا على الله في الدخان ( الآية : 19 ) .
و أن لا يشركن بالله شيئا في الممتحنة ( الآية : 12 ) و أن لا يدخلنها في القلم ( الآية : 24 ) .
وواحد فيه خلاف : أن لا إله إلا أنت في الأنبياء ( الآية : 87 ) .
فتأمل كيف صح في الوجود هذا التوكيد الأخير ، فلم يدخلها عليهم مسكين لكن على غير ما قصدوا وتخيلوا فيه .
[ ص: 52 ] وكذلك ، لما كانت للتعريف - وشأن المعرف أن يكون أبين وأظهر ، لا أخفى وأستر - أظهرت في الخط ، ووصلت بالكلمة ; لأنها صارت جزءا منها حيث هي معرفة بها ، هذا هو الأصل ، وقد حذف حيث يخفى معنى الكلمة مثل " اليل " فإنه بمعنى مظلم لا يوضح الأشياء ، بل يسترها ويخفيها ، وكونه واحدا إما للجزئي أو للجنس ، فأخفي حرف تعريفه في مثله ، فإن تعين للجزئي بالتأنيث رجع إلى الأصل ، ومثل الذي والتي وتثنيتهما وجمعهما ، فإنه مبهم في المعنى والكم ; لأن أول حده للجزئي وللجنس للثلاث أو غيرها ، ففيه ظلمة الجهل كالليل ومثل " الئي " في الإيجاب فإن لام التعريف دخلت على لا النافية ، وفيها ظلمة العدم كالليل ، ففي هذه الظلمات الثلاث يخفى حرف التعريف . لام التعريف المدغمة في اللفظ في مثلها أو غيرها
وكذلك " الأيكة " نقلت حركة همزتها على لام التعريف وسقطت همزة الوصل لتحريك اللام ، وحذفت ألف عضد الهمزة ووصل اللام ، فاجتمعت الكلمتان ، فصارت " ليكة " علامة على اختصار وتلخيص وجمع في المعنى ; وذلك في حرفين : أحدهما في الشعراء ( الآية : 176 ) جمع فيه قصتهم مختصرة وموجزة في غاية البيان ، وجعلها جملة ; فهي آخر قصة في السورة بدليل قوله : إن في ذلك لآية ( الشعراء : 190 ) فأفردها ، والثاني في ص ( الآية : 13 ) جمع الأمم فيها بألقابهم وجعلهم جهة واحدة ، هم آخر أمة فيها ، ووصف الجملة ، قال تعالى : أولئك الأحزاب ، وليس الأحزاب وصفا لكل منهم ، بل هو وصف جميعهم .
وجاء بالانفصال على الأصل حرفان نظير هذين الحرفين : أحدهما في الحجر : وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين ( الآية : 78 ) أفردهم بالذكر والوصف . والثاني في ق : وأصحاب الأيكة ( الآية : 14 ) ، جمعوا فيه مع غيرهم ، ثم حكم على كل منهم ، لا على [ ص: 53 ] الجملة ، قال تعالى : كل كذب الرسل ( الآية : 14 ) ، فحيث يعتبر فيهم التفضيل فصل لام التعريف ، وحيث يعتبر فيهم التوصيل وصل للتخفيف .
وكذلك : " " لتخذت عليه أجرا " " ( الكهف : 77 ) ، حذفت الألف ووصلت اللام ; لأن العمل في الجدار قد حصل في الوجود ، فلزم عليه الأجر ، واتصل به حكما ، بخلاف : لاتخذوك خليلا ( الإسراء : 73 ) ليس فيه وصلة اللزوم .