كل نفس بما كسبت رهينة أي مأخوذة بعملها ومرتهنة به ، إما خلصها وإما أوبقها ، والرهينة اسم بمعنى الرهن ، كالشيمة بمعنى الشيم ، وليست صفة ، ولو كانت صفة لقيل " رهين " لأن فعيلا يستوي فيه المذكر والمؤنث ، والمعنى : كل نفس رهن بكسبها غير مفكوكة . قوله :
إلا أصحاب اليمين فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم ، بل يفكون بما أحسنوا من أعمالهم .
واختلف في تعيينهم ، فقيل هم الملائكة ، وقيل المؤمنون ، وقيل أولاد المسلمين ، وقيل الذين كانوا عن يمين آدم ، وقيل أصحاب الحق ، وقيل هم المعتمدون على الفضل دون العمل ، وقيل هم الذين اختارهم الله لخدمته .
في جنات هو في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، والجملة استئناف جوابا على سؤال نشأ مما قبله ، ويجوز أن يكون في جنات حالا من أصحاب اليمين ، وأن يكون حالا من فاعل يتساءلون وأن يكون ظرفا ليتساءلون ، وقوله : يتساءلون يجوز أن يكون على بابه : أي يسأل بعضهم بعضا ، ويجوز أن يكون بمعنى يسألون : أي يسألون غيرهم ، نحو دعيته وتداعيته ، فعلى الوجه الأول يكون .
عن المجرمين متعلقا بيتساءلون : أي يسأل بعضهم بعضا عن أحوال المجرمين ، وعلى الوجه الثاني تكون " عن " زائدة : أي يسألون المجرمين .
وقوله : ما سلككم في سقر هو على تقدير القول : أي يتساءلون عن المجرمين يقولون لهم : ما سلككم في سقر ، أو يسألونهم قائلين لهم : ما سلككم في سقر ، والجملة على كلا التقديرين في محل نصب على الحال ، والمعنى : ما أدخلكم في سقر ، تقول سلكت الخيط في كذا : إذا دخلته فيه .
قال الكلبي : يسأل الرجل من أهل الجنة الرجل من أهل النار باسمه ، فيقول له : يا فلان ما سلكك في النار .
وقيل إنهم يسألون الملائكة عن أقربائهم ، فتسأل الملائكة المشركين يقولون لهم : ما سلككم في سقر .
قال الفراء : في هذا ما يقوي أن أصحاب اليمين هم الولدان ، لأنهم لا يعرفون الذنوب .
قالوا لم نك من المصلين أي من المؤمنين الذين يصلون لله في الدنيا .
ولم نك نطعم المسكين أي لم نتصدق على المساكين ، قيل وهذان محمولان على الصلاة الواجبة والصدقة الواجبة ؛ لأنه لا تعذيب على غير الواجب ، وفيه دليل على أن . الكفار مخاطبون بالشرعيات
وكنا نخوض مع الخائضين أي نخالط أهل الباطل في باطلهم .
قال قتادة : كلما غوى غاو غوينا معه .
وقال : كنا نكذب مع المكذبين . السدي
وقال ابن زيد : نخوض مع الخائضين في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وهو قولهم كاذب مجنون ساحر شاعر .
وكنا نكذب بيوم الدين أي بيوم الجزاء والحساب .
حتى أتانا اليقين وهو الموت ، كما في قوله : واعبد ربك حتى يأتيك اليقين [ الحجر : 99 ] .
فما تنفعهم شفاعة الشافعين أي شفاعة الملائكة والنبيين كما تنفع [ ص: 1556 ] الصالحين .
فما لهم عن التذكرة معرضين التذكرة التذكير بمواعظ القرآن ، والفاء لترتيب إنكار إعراضهم عن التذكرة على ما قبله من موجبات الإقبال عليها ، وانتصاب معرضين على الحال من الضمير في متعلق الجار والمجرور : أي أي شيء حصل لهم حال كونهم معرضين عن القرآن الذي هو مشتمل على التذكرة الكبرى والموعظة العظمى .
ثم شببهم في نفورهم عن القرآن بالحمر فقال : كأنهم حمر مستنفرة والجملة حال من الضمير في معرضين على التداخل ، ومعنى مستنفرة نافرة ، يقال نفر واستنفر ، مثل عجب واستعجب ، والمراد الحمر الوحشية .
قرأ الجمهور مستنفرة بكسر الفاء : أي نافرة ، وقرأ نافع ، وابن عامر بفتحها : أي منفرة مذعورة ، واختار القراءة الثانية أبو حاتم ، وأبو عبيد .
قال في الكشاف : المستنفرة الشديدة النفار كأنها تطلب النفار من نفوسها في جمعها له ، وحملها عليه .
فرت من قسورة أي من رماة يرمونها ، والقسور الرامي ، وجمعه قسورة قاله ، سعيد بن جبير وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن كيسان ، وقيل هو الأسد قاله عطاء ، والكلبي .
قال : من القسر بمعنى القهر ؛ لأنه يقهر السباع ، وقيل القسورة أصوات الناس ، وقيل القسورة بلسان العرب الأسد وبلسان الحبشة الرماة . ابن عرفة
وقال : القسورة أول الليل أي : فرت من ظلمة الليل ، وبه قال ابن الأعرابي عكرمة ، والأول أولى ، وكل شديد عند العرب فهو قسورة ، ومنه قول الشاعر :
يا بنت كوني خيرة لخيره أخوالها الحي وأهل القسورة
ومنه قول لبيد :إذا ما هتفنا هتفة في ندينا أتانا الرجال العابدون القساور
مضمر تحذره الأبطال كأنه القسور الرهال
قال المفسرون : إن كفار قريش قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم : ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك رسول الله .
والصحف : الكتب واحدتها صحيفة ، والمنشرة المنشورة المفتوحة ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه [ الإسراء : 93 ] قرأ الجمهور منشرة بالتشديد .
وقرأ بالتخفيف . سعيد بن جبير
وقرأ الجمهور أيضا بضم الحاء من صحف .
وقرأ بإسكانها . سعيد بن جبير
ثم ردعهم الله سبحانه عن هذه المقالة وزجرهم فقال : كلا بل لا يخافون الآخرة يعني عذاب الآخرة لأنهم لو خافوا النار لما اقترحوا الآيات ، وقيل كلا بمعنى حقا .
ثم كرر الردع والزجر لهم فقال : كلا إنه تذكرة يعني القرآن ، أو حقا إنه تذكرة ، والمعنى : أنه يتذكر به ويتعظ بمواعظه .
فمن شاء ذكره أي فمن شاء أن يتعظ به اتعظ .
ثم رد سبحانه المشيئة إلى نفسه فقال : وما يذكرون إلا أن يشاء الله قرأ الجمهور يذكرون بالياء التحتية .
وقرأ نافع ، ويعقوب بالفوقية ، واتفقوا على التخفيف ، وقوله : إلا أن يشاء الله استثناء مفرغ من أعم الأحوال .
قال مقاتل : إلا أن يشاء الله لهم الهدى هو أهل التقوى أي هو الحقيق بأن يتقيه المتقون بترك معاصيه والعمل بطاعاته وأهل المغفرة أي هو الحقيق بأن يغفر للمؤمنين ما فرط منهم من الذنوب والحقيق بأن يقبل توبة التائبين من العصاة فيغفر ذنوبهم .
وقد أخرج عن ابن جرير في قوله : ابن عباس كل نفس بما كسبت رهينة قال : مأخوذة بعملها .
وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : إلا أصحاب اليمين قال : هم المسلمون .
وأخرج عبد الرزاق ، ، والفريابي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن علي بن أبي طالب إلا أصحاب اليمين قال : هم أطفال المسلمين .
وأخرج عن ابن أبي حاتم ابن عباس حتى أتانا اليقين قال : الموت .
وأخرج ، سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن في قوله : أبي موسى الأشعري فرت من قسورة قال : هم الرماة رجال القسي .
وأخرج ، عبد بن حميد وابن المنذر عن قال : القسورة : الرجال الرماة القنص . ابن عباس
وأخرج ، سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم قال : قلت أبي جمرة : القسورة : الأسد ؟ فقال : ما أعلمه بلغة أحد من العرب الأسد هم عصبة الرجال . لابن عباس
وأخرج ، سفيان بن عيينة وعبد الرزاق ، وابن المنذر عن ابن عباس من قسورة قال : هو ركز الناس : يعني أصواتهم .
وأخرج أحمد ، ، والدارمي وحسنه والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه ، والبزار وأبو يعلى ، ، وابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وصححه وابن عدي وابن مردويه عن أنس هو أهل التقوى وأهل المغفرة فقال : قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله ، فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية
وأخرج ابن مردويه عن ، أبي هريرة ، وابن عمر مرفوعا نحوه . وابن عباس