وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب .
قوله : وإذ قال إبراهيم متعلق بمحذوف : أي اذكر وقت قوله ، ولعل المراد بسياق ما قاله إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع - بيان كفر قريش بالنعم الخاصة بهم ، وهي إسكانهم مكة بعد ما بين كفرهم بالنعم العامة ، وقيل : إن ذكر قصة إبراهيم هاهنا لمثال الكلمة الطيبة ، وقيل : لقصد الدعاء إلى التوحيد ، وإنكار عبادة الأصنام رب اجعل هذا البلد آمنا المراد بالبلد هنا مكة : دعا إبراهيم ربه أن يجعله آمنا : [ ص: 750 ] أي ذا أمن ، وقدم طلب الأمن على سائر المطالب المذكورة بعده ، لأنه إذا انتفى الأمن لم يفرغ الإنسان لشيء آخر من أمور الدين والدنيا ، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في البقرة عند قوله تعالى : رب اجعل هذا بلدا آمنا [ البقرة : 126 ] والفرق بين ما هنا وما هنالك أن المطلوب هنا مجرد الأمن للبلد ، والمطلوب هنالك البلدية والأمن واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ، يقال جنبته كذا وأجنبته وجنبته ، أي : باعدته عنه ، والمعنى : باعدني ، وباعد بني عن عبادة الأصنام ، قيل : أراد بنيه من صلبه وكانوا ثمانية ، وقيل : أراد من كان موجودا حال دعوته من بنيه وبني بنيه ، وقيل : أراد جميع ذريته ما تناسلوا ، ويؤيد ذلك ما قيل من أنه لم يعبد أحد من أولاد إبراهيم صنما ، والصنم هو التمثال الذي كانت تصنعه أهل الجاهلية من الأحجار ونحوها فيعبدونه .
وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر " وأجنبني " بقطع الهمزة على أن أصله أجنب .
رب إنهن أضللن كثيرا من الناس أسند الإضلال إلى الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل ، لأنها سبب لضلالهم فكأنها أضلتهم ، وهذه الجملة تعليل لدعائه لربه ، ثم قال : فمن تبعني أي من تبع ديني من الناس فصار مسلما موحدا فإنه مني أي من أهل ديني : جعل أهل ملته كنفسه مبالغة ومن عصاني فلم يتابعني ويدخل في ملتي فإنك غفور رحيم قادر على أن تغفر له ، قيل : قال هذا قبل أن يعلم أن الله لا يغفر أن يشرك به كما وقع منه الاستغفار لأبيه وهو مشرك ، كذا قال وقيل : المراد عصيانه هنا فيما دون الشرك ، وقيل : إن هذه المغفرة مقيدة بالتوبة من الشرك . ابن الأنباري ،
ثم قال ربنا إني أسكنت من ذريتي قال الفراء : " من " للتبعيض ، أي : بعض ذريتي .
وقال : إنها زائدة ، أي : أسكنت ذريتي ، والأول أولى ، لأنه إنما أسكن إسماعيل وهو بعض ولده ابن الأنباري بواد غير ذي زرع أي لا زرع فيه ، وهو وادي مكة عند بيتك المحرم أي الذي يحرم فيه ما يستباح في غيره ، وقيل : إنه محرم على الجبابرة ، وقيل : محرم من أن تنتهك حرمته ، أو يستخف به .
وقد تقدم في سورة المائدة ما يغني عن الإعادة ، ثم قال : ربنا ليقيموا الصلاة اللام متعلقة بـ أسكنت ، أي : أسكنتهم ليقيموا الصلاة فيه ، متوجهين إليه ، متبركين به ، وخصها دون سائر العبادات لمزيد فضلها ، ولعل تكرير النداء لإظهار العناية الكاملة بهذه العبادة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم الأفئدة جمع فؤاد ، وهو القلب ، عبر به عن جميع البدن ، لأنه أشرف عضو فيه .
وقيل : هو جمع وفد ، والأصل أوفدة ، فقدمت الفاء ، وقلبت الواو ياء ، فكأنه قال : وجعل وفودا من الناس تهوي إليهم ، و ( من ) في من الناس للتبعيض ، وقيل : زائدة ولا يلزم منه أن يحج اليهود والنصارى بدخولهم تحت لفظ الناس ، لأن المطلوب توجيه قلوب الناس إليهم للسكون معهم والجلب إليهم لا توجيهها إلى الحج ، ولو كان هذا مرادا لقال تهوي إليه ، وقيل : ( من ) للابتداء كقولك : القلب مني سقيم ، يريد قلبي ، ومعنى تهوي إليهم : تنزع إليهم ، يقال هوى نحوه : إذا مال ، وهوت الناقة تهوي هويا فهي هاوية : إذا عدت عدوا شديدا كأنها تهوي في بئر ، ويحتمل أن يكون المعنى : تجيء إليهم أو تسرع إليهم ، والمعنى متقارب . وارزقهم من الثمرات : أي ارزق ذريتي الذين أسكنتهم هنالك أو هم ومن يساكنهم من الناس من أنواع الثمرات التي تنبت فيه ، أو تجلب إليه لعلهم يشكرون نعمك التي أنعمت بها عليهم .
ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن أي : ما نكتمه وما نظهره ، لأن الظاهر والمضمر بالنسبة إليه سبحانه سيان .
قيل : والمراد هنا بـ " ما نخفي " ما يقابل " ما نعلن " ، فالمعنى ما نظهره وما لا نظهره ، وقدم " ما نخفي " على " ما نعلن " للدلالة على أنهما مستويان في علم الله سبحانه .
وظاهر النظم القرآني عموم كل ما لا يظهر وما يظهر من غير تقييد بشيء معين من ذلك ، وقيل : المراد ما يخفيه إبراهيم من وجده بإسماعيل وأمه حيث أسكنهما بواد غير ذي زرع ، وما يعلنه من ذلك ، وقيل : ما يخفيه إبراهيم من الوجد ويعلنه من البكاء والدعاء ، والمجيء بضمير الجماعة يشعر بأن إبراهيم لم يرد نفسه فقط ، بل أراد جميع العباد ، فكأن المعنى : أن الله سبحانه يعلم بكل ما يظهره العباد وبكل ما لا يظهرونه .
وأما قوله : وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء فقال جمهور المفسرين : هو من كلام الله سبحانه تصديقا لما قاله إبراهيم من أنه سبحانه يعلم بما يخفيه العباد وما يعلنونه ، فقال سبحانه : وما يخفى على الله شيء من الأشياء الموجودة كائنا ما كان ، وإنما ذكر السماوات والأرض لأنها المشاهدة للعباد ، وإلا فعلمه سبحانه محيط بكل ما هو داخل في العالم ، وكل ما هو خارج عنه لا تخفى عليه منه خافية .
قيل : ويحتمل أن يكون هذا من قول إبراهيم تحقيقا لقوله الأول ، وتعميما بعد التخصيص .
ثم حمد الله سبحانه على بعض نعمه الواصلة إليه فقال : الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق أي وهب لي على كبر سني وسن امرأتي ، قيل : ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة ، وقيل : و ( على ) هنا بمعنى مع ، أي : وهب لي مع كبري ويأسي عن الولد إن ربي لسميع الدعاء أي لمجيب الدعاء ، من قولهم : سمع كلامه إذا أجابه واعتد به وعمل بمقتضاه ، وهو من إضافة الصفة المتضمنة للمبالغة إلى المفعول ، والمعنى : إنك لكثير إجابة الدعاء لمن يدعوك .
ثم سأل الله سبحانه بأن يجعله مقيم الصلاة محافظا عليها غير مهمل لشيء منها ، ثم قال : ومن ذريتي أي بعض ذريتي : أي اجعلني واجعل بعض ذريتي مقيمين للصلاة ، وإنما خص البعض من ذريته ، لأنه علم أن منهم من لا يقيمها كما ينبغي .
قال : أي اجعل من ذريتي من يقيم الصلاة ، ثم سأل الله سبحانه أن يتقبل دعاءه على العموم ، ويدخل في ذلك دعاؤه في هذا المقام دخولا أوليا . الزجاج
قيل : والمراد بالدعاء هنا العبادة ، فيكون المعنى : وتقبل عبادتي [ ص: 751 ] التي أعبدك بها .
ثم طلب من الله سبحانه أن يغفر له ما وقع منه مما يستحق أن يغفره الله وإن لم يكن كبيرا ؛ لما هو معلوم من عصمة الأنبياء عن الكبائر .
ثم طلب من الله سبحانه أن يغفر لوالديه .
وقد قيل إنه دعا لهما بالمغفرة قبل أن يعلم أنهما عدوان لله سبحانه كما في قوله سبحانه : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه [ التوبة : 114 ] .
وقيل : كانت أمه مسلمة ، وقيل : أراد بوالديه آدم وحواء .
وقرأ " ولوالدي " بالتوحيد على إرادة الأب وحده . سعيد بن جبير
وقرأ " ولولدي " يعني إبراهيم النخعي إسماعيل وإسحاق ، وكذا قرأ ثم استغفر للمؤمنين . يحيى بن يعمر ،
وظاهره شمول كل مؤمن ، سواء كان من ذريته أو لم يكن منهم ، وقيل : أراد المؤمنين من ذريته فقط يوم يقوم الحساب أي يوم يثبت حساب المكلفين في المحشر ، استعير له لفظ " يقوم " الذي هو حقيقته في قيام الرجل للدلالة على أنه في غاية الاستقامة ، وقيل : إن المعنى يوم يقوم الناس للحساب ، والأول أولى .
وقد أخرج عن ابن جرير مجاهد في قوله : وإذ قال إبراهيم الآية ، قال : فاستجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده فلم يعبد أحد من ولده صنما بعد دعوته ، واستجاب الله له ، وجعل هذا البلد آمنا ، ورزق أهله من الثمرات ، وجعله إماما ، وجعل من ذريته من يقيم الصلاة ، وتقبل دعاءه فأراه مناسكه وتاب عليه .
وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن عقيل بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أتاه الستة النفر من الأنصار جلس إليهم عند جمرة العقبة ، فدعاهم إلى الله وإلى عبادته والمؤازرة على دينه ، فسألوه أن يعرض عليهم ما أوحي إليه ، فقرأ من سورة إبراهيم وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام إلى آخر السورة ، فرق القوم وأخبتوا حين سمعوا منه ما سمعوا وأجابوه .
وأخرج الواقدي من طريق وابن عساكر عامر بن سعد عن أبيه قال : كانت سارة تحت إبراهيم ، فمكثت تحته دهرا لا ترزق منه ولدا ، فلما رأت ذلك وهبت له هاجر أمة لها قبطية ، فولدت له إسماعيل ، فغارت من ذلك سارة ووجدت في نفسها وعتبت على هاجر ، فحلفت أن تقطع منها ثلاثة أطراف ، فقال لها إبراهيم : هل لك أن تبري يمينك ؟ قالت : كيف أصنع ؟ قال : اثقبي أذنيها واخفضيها ، ففعلت ذلك بها فوضعت والخفض : هو الختان ، هاجر في أذنيها قرطين فازدادت بهما حسنا .
فقالت سارة : أراني أنما زدتها جمالا فلم تقاره على كونه معها ووجد بها إبراهيم وجدا شديدا ، فنقلها إلى مكة فكان يزورها في كل يوم من الشام على البراق من شغفه بها وقلة صبره عنها .
وأخرج عن ابن جرير في قوله : ابن عباس إني أسكنت من ذريتي قال : أسكن إسماعيل وأمه مكة .
وأخرج ابن المنذر عنه قال : إن إبراهيم حين قال فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم لو قال أفئدة الناس تهوي إليهم لازدحمت عليه فارس والروم .
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم الحكم قال : سألت عكرمة وطاوسا عن هذه الآية وعطاء بن أبي رباح فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم فقالوا : البيت تهوي إليه قلوبهم يأتونه ، وفي لفظ قالوا : هواهم إلى مكة أن يحجوا .
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله : تهوي إليهم قال : تنزع إليهم .
وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم أن محمد بن مسلم الطائفي إبراهيم لما دعا للحرم وارزق أهله من الثمرات نقل الله الطائف من فلسطين .
وأخرج عن ابن أبي حاتم قال : إن الله نقل قرية من قرى الزهري الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم ، وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان قال السيوطي بسند حسن عن قالوا : لو كان ابن عباس إبراهيم عليه السلام قال فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم لحج اليهود والنصارى والناس كلهم ، ولكنه قال أفئدة من الناس فخص به المؤمنين .
وأخرج عنه في قوله : ابن أبي حاتم ما نخفي وما نعلن قال : من الحزن .
وأخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : إبراهيم النخعي ربنا إنك تعلم ما نخفي قال : من حب إسماعيل وأمه وما نعلن قال : ما نظهر لسارة من الجفاء لهما .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق قال : هذا بعد ذلك بحين .
وأخرج عن ابن جرير قال : بشر سعيد بن جبير إبراهيم بعد سبع عشرة سنة ومائة سنة .