قال أبو علي الفارسي : آذن بالمد : أعلم ، وأذن بالتشديد نادى .
وقال قوم : كلاهما بمعنى أعلم كما يقال : أيقن وتيقن .
والمعنى في الآية : واسألهم وقت أن وقع الإعلام لهم من ربك ليبعثن عليهم قيل : وفي هذا الفعل معنى القسم كعلم الله ، وشهد الله ، ولذلك أجيب بما يجاب به القسم حيث قال : ليبعثن عليهم أي ليرسلن عليهم ويسلطن كقوله : بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ( الإسراء : 5 ) إلى يوم القيامة غاية لسومهم سوء العذاب ممن يبعثه الله عليهم ، وقد كانوا أقماهم الله هكذا أذلاء مستضعفين معذبين بأيدي أهل الملل ، وهكذا هم في هذه الملة الإسلامية في كل قطر من أقطار الأرض في الذلة المضروبة عليهم والعذاب والصغار ، يسلمون الجزية بحقن دمائهم ويمتهنهم المسلمون فيما فيه ذلة من الأعمال التي يتنزه عنها غيرهم من طوائف الكفار .
ومعنى يسومهم [ ص: 509 ] يذيقهم ، وقد تقدم بيان أصل معناه ، ثم علل ذلك بقوله : إن ربك لسريع العقاب يعاجل به في الدنيا كما وقع لهؤلاء بعدها لغفور رحيم أي كثير الغفران والرحمة .
168 - وقطعناهم في الأرض أي فرقناهم في جوانبها ، أو شتتنا أمرهم فلم تجتمع لهم كلمة ، و " أمما " منتصب على الحال أو مفعول ثان لقطعنا على تضمينه معنى صيرنا ، وجملة منهم الصالحون بدل من أمما ، قيل : هم الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ومن مات قبل البعثة المحمدية غير مبدل ، وقيل : هم الذين سكنوا وراء الصين كما تقدم بيانه قبل هذا ومنهم دون ذلك أي دون هذا الوصف الذي اتصفت به الطائفة الأولى وهو الصلاح ، ومحل " دون ذلك " الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : ومنهم أناس دون ذلك ، والمراد بهؤلاء هم من لم يؤمن ، بل انهمك في المخالفة لما أمره الله به .
قال النحاس دون منصوب على الظرف ولا نعلم أحدا رفعه وبلوناهم بالحسنات والسيئات أي امتحناهم بالخير والشر رجاء أن يرجعوا مما هم من الكفر والمعاصي .
فخلف من بعدهم خلف المراد بهم أولاد الذين قطعهم الله في الأرض .
قال أبو حاتم ، : الخلف بسكون اللام : الأولاد ، الواحد والجمع سواء .
والخلف بفتح اللام البدل : ولدا كان أو غيره .
و قال : الخلف بالفتح الصالح ، وبالسكون الطالح . ابن الأعرابي
قال لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ومنه قيل : للرديء من الكلام خلف بالسكون ، وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر ، ومنه قول : حسان بن ثابتلنا القدم الأولى إليك وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
والمعنى : أنهم ، والحال أن قد درسوا ما في الكتاب وعلموه فكان الترك منهم عن علم لا عن جهل ، وذلك أشد ذنبا وأعظم جرما . تركوا العمل بالميثاق المأخوذ عليهم في الكتاب
وقيل : معنى درسوا ما فيه أي محوه بترك العمل به والفهم له ، من قولهم درست الريح الآثار : إذا محتها والدار الآخرة خير من ذلك العرض الذي أخذوه وآثروه عليها للذين يتقون الله ويجتنبون معاصيه أفلا تعقلون فتعلمون بهذا وتفهمونه ، وفي هذا من التوبيخ والتقريع ما لا يقادر قدره .
قوله : والذين يمسكون بالكتاب قرأ الجمهور يمسكون بالتشديد من مسك وتمسك : أي استمسك بالكتاب وهو التوراة .
وقرأ أبو العالية وعاصم في رواية أبي بكر بالتخفيف من أمسك يمسك .
وروي عن أنه قرأ " مسكوا " والمعنى : أن طائفة من أهل الكتاب لا يتمسكون بالكتاب ولا يعملون بما فيه مع كونهم قد درسوه وعرفوه وهم من تقدم ذكره ، وطائفة يتمسكون بالكتاب : أي التوراة ويعملون بما فيه ويرجعون إليه في أمر دينهم فهم المحسنون الذين لا يضيع أجرهم عند الله ، والموصول مبتدأ ، و أبي بن كعب إنا لا نضيع أجر المصلحين خبره : أي لا نضيع أجر المصلحين منهم ، وإنما وقع التنصيص على الصلاة مع كونها داخلة في سائر العبادات التي يفعلها المتمسكون بالتوراة لأنها رأس العبادات وأعظمها ، فكان ذلك وجها لتخصيصها بالذكر ، وقيل : لأنها تقام في أوقات مخصوصة ، والتمسك بالكتاب مستمر فذكرت لهذا ، وفيه نظر فإن كل عبادة في الغالب تختص بوقت معين ، ويجوز أن يكون الموصول معطوفا على الموصول الذي قبله وهو للذين يتقون ، ولكون أفلا تعقلون جملة معترضة .
وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن في قوله : ابن عباس ، يسومهم سوء العذاب قال : محمد وأمته إلى يوم القيامة ، وسوء العذاب : الجزية .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عنه قال : سوء العذاب الخراج ، وفي قوله : وقطعناهم قال : هم اليهود بسطهم الله في الأرض فليس منها بقعة إلا وفيها عصابة منهم وطائفة .
وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، في قوله : ليبعثن عليهم قال : على اليهود والنصارى إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب فبعث الله عليهم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يأخذون منهم الجزية وهم صاغرون وقطعناهم في الأرض أمما قال : يهود منهم الصالحون وهم مسلمة [ ص: 510 ] أهل الكتاب ومنهم دون ذلك قال : اليهود وبلوناهم بالحسنات قال : الرخاء والعافية والسيئات قال : البلاء والعقوبة .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن وبلوناهم بالحسنات والسيئات بالخصب والجدب . ابن عباس ،
وأخرج أبو الشيخ ، عنه أنه سئل عن هذه الآية فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى قال : أقوام يقبلون على الدنيا فيأكلونها ويتبعون رخص القرآن ويقولون سيغفر لنا ولا يعرض لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم ، مجاهد في قوله : فخلف من بعدهم خلف قال : النصارى يأخذون عرض هذا الأدنى قال : ما أشرف لهم من شيء من الدنيا حلالا أو حراما يشتهونه أخذوه ويتمنون المغفرة ، وإن يجدوا الغد مثله يأخذوه .
وأخرج عن ابن جرير ، فخلف من بعدهم خلف الآية يقول : يأخذون ما أصابوا ويتركون ما شاؤوا من حلال أو حرام ويقولون سيغفر لنا . ابن عباس ،
وأخرج أبو الشيخ ، عن في قوله : ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون إليها ولا يتوبون منها . ابن عباس ،
وأخرج ابن جرير ، عن وابن أبي حاتم ، أبي زيد في قوله : ودرسوا ما فيه قال : علموا ما في الكتاب لم يأتوه بجهالة .
وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الحسن في قوله : والذين يمسكون بالكتاب قال : هي لأهل الإيمان منهم .
وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : والذين يمسكون بالكتاب قال : من اليهود والنصارى .