الباطل : ما ليس بحق ، ووجوه ذلك كثيرة ، ومن الباطل البيوعات التي نهى عنها الشرع . والتجارة في اللغة عبارة عن المعارضة ، وهذا الاستثناء منقطع ; أي : لكن تجارة عن تراض منكم جائزة بينكم ، أو لكن كون تجارة عن تراض منكم حلالا لكم . وقوله : عن تراض صفة ل ( تجارة ) ; أي : كائنة عن تراض ، وإنما لكونها أكثرها وأغلبها ، وتطلق التجارة على جزاء الأعمال من الله على وجه المجاز ، ومنه قوله تعالى : نص الله سبحانه على التجارة دون سائر أنواع المعاوضات هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم [ الصف : 10 ] .
وقوله : يرجون تجارة لن تبور [ فاطر : 29 ] . واختلف العلماء في التراضي ، فقالت طائفة : تمامه وجوبه بافتراق الأبدان بعد عقد البيع ، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه : اختر . كما في الحديث الصحيح . البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، أو يقول أحدهما لصاحبه : اختر
وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ، وبه قال الشافعي والثوري والأوزاعي والليث وابن عيينة وإسحاق وغيرهم . وقال مالك وأبو حنيفة : تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة فيرتفع بذلك الخيار ، وأجابوا عن الحديث بما لا طائل تحته . وقد قرئ ( تجارة ) بالرفع على أن كان تامة ، ( وتجارة ) بالنصب على أنها ناقصة . قوله : ولا تقتلوا أنفسكم أي : لا يقتل بعضكم أيها المسلمون بعضا إلا بسبب أثبته الشرع ، أو لا تقتلوا أنفسكم باقتراف المعاصي ، أو المراد حقيقة . ولا مانع من حمل الآية على جميع المعاني . ومما يدل على ذلك احتجاج النهي عن أن يقتل الإنسان نفسه بها حين لم يغتسل بالماء البارد حين أجنب في غزاة ذات السلاسل ، فقرر النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجاجه وهو في مسند عمرو بن العاص أحمد وسنن أبي داود وغيرهما .
قوله : ومن يفعل ذلك أي : القتل خاصة أو أكل أموال الناس ظلما والقتل عدوانا وظلما ، وقيل : هو إشارة إلى كل ما نهي عنه في هذه السورة ، وقال : إنه عائد على ما نهى عنه من آخر وعيد وهو قوله تعالى : ابن جرير ياأيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها [ النساء : 19 ] ; لأن كل ما نهي عنه من أول السورة قرن به وعيد إلا من قوله : ياأيها الذين آمنوا لا يحل لكم فإنه لا وعيد بعده إلا قوله : ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما والعدوان : تجاوز الحد . : وضع الشيء في غير موضعه ، وقيل : إن معنى العدوان والظلم واحد ، وتكريره لقصد التأكيد كما في قول الشاعر : والظلم
[ ص: 293 ]
وألفي قولها كذبا ومينا
وخرج بقيد العدوان والظلم ما كان من القتل بحق كالقصاص وقتل المرتد وسائر الحدود الشرعية وكذلك قتل الخطأ .قوله : فسوف نصليه جواب الشرط ; أي : ندخله نارا عظيمة وكان ذلك أي : إصلاؤه النار على الله يسيرا ; لأنه لا يعجزه شيء . وقرئ : " نصليه " بفتح النون ، روي ذلك عن الأعمش والنخعي ، وهو على هذه القراءة منقول من صلى ، ومنه شاة مصلية . قوله : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم أي : نكفر عنكم سيئاتكم أي : ذنوبكم التي هي صغائر ، وحمل السيئات على الصغائر هنا متعين لذكر الكبائر قبلها ، وجعل اجتنابها شرطا لتكفير السيئات . وقد اختلف أهل الأصول في إن تجتنبوا كبائر الذنوب التي نهاكم الله عنها ثم في عددها ، فأما في تحقيقها فقيل : إن الذنوب كلها كبائر ، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها ، كما يقال : الزنا صغيرة بالإضافة إلى الكفر ، والقبلة المحرمة صغيرة بالإضافة إلى الزنا ، وقد روي نحو هذا عن تحقيق معنى الكبائر الاسفراييني والجويني والقشيري وغيرهم قالوا : هي الشرك ، واستدلوا على ذلك بقراءة من قرأ ( إن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه ) وعلى قراءة الجمع ، فالمراد أجناس الكفر ، واستدلوا على ما قالوه بقوله تعالى : والمراد بالكبائر التي يكون اجتنابها سببا لتكفير السيئات إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء [ النساء : 48 ] قالوا : فهذه الآية مقيدة لقوله : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه وقال : الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب . وقال ابن عباس : الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية . وقال ابن مسعود : كل ذنب نسبه الله إلى النار فهو كبيرة . وقال جماعة من أهل الأصول : الكبائر كل ذنب رتب الله عليه الحد أو صرح بالوعيد فيه . وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره . وأما الاختلاف في عددها فقيل : إنها سبع ، وقيل : سبعون ، وقيل : سبعمائة ، وقيل : غير منحصرة ، ولكن بعضها أكبر من بعض ، وسيأتي ما ورد في ذلك إن شاء الله . سعيد بن جبير
قوله : وندخلكم مدخلا أي : مكان دخول وهو الجنة كريما أي : حسنا مرضيا ، وقد قرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر والكوفيون مدخلا بضم الميم . وقرأ أهل المدينة بفتح الميم ، وكلاهما اسم مكان ، ويجوز أن يكون مصدرا . وقد أخرج ابن أبي حاتم ، قال والطبراني السيوطي بسند صحيح عن في قوله تعالى : ابن مسعود ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل قال : إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة . وأخرج عن ابن جرير عكرمة والحسن في الآية قال : كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية ، فنسخ ذلك الآية التي في النور ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم [ النور : 61 ] الآية . وأخرج ابن ماجه وابن المنذر عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : . إنما البيع عن تراض
وأخرج ابن المنذر عن وابن أبي حاتم أبي صالح وعكرمة في قوله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم قالا : نهاهم عن قتل بعضهم بعضا . وأخرج ابن المنذر عن مجاهد نحوه . وأخرج عن ابن جرير نحوه . وأخرج عطاء بن أبي رباح ابن جرير وابن المنذر عن : السدي ولا تقتلوا أنفسكم قال : أهل دينكم . وأخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : سعيد بن جبير ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما يعني : متعمدا اعتداء بغير حق وكان ذلك على الله يسيرا يقول : كان عذابه على الله هينا . وأخرج ابن المنذر عن قال : قلت ابن جريج لعطاء : أرأيت قوله تعالى : ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا في كل ذلك أم في قوله : ولا تقتلوا أنفسكم ؟ قال : بل في قوله : ولا تقتلوا أنفسكم .
وأخرج عن عبد بن حميد قال : هان ما سألكم ربكم أنس بن مالك إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي في الشعب عن قال : كل ما نهى عنه فهو كبيرة ، وقد ذكرت الطرفة : يعني النظرة . وأخرج ابن عباس عنه قال : كل شيء عصي الله فيه فهو كبيرة . وأخرج ابن جرير عنه قال : كل ما وعد الله عليه النار كبيرة . ابن أبي حاتم
وأخرج ابن جرير والبيهقي في الشعب عنه قال : الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب . وأخرج عن ابن جرير ما قدمناه عنه . وأخرج سعيد بن جبير عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن : أنه سئل عن الكبائر أسبع هي ؟ قال : هي إلى السبعين أقرب . وأخرج ابن عباس ابن جرير وابن المنذر عنه : أن رجلا سأله كم الكبائر أسبع هي ؟ قال : هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ، ولا صغيرة مع إصرار . وأخرج وابن أبي حاتم البيهقي في الشعب عنه : كل ذنب أصر عليه العبد كبيرة ، وليس بكبيرة ما تاب عنه العبد . وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أبي هريرة ، قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والسحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات السبع الموبقات وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث اجتنبوا أبي بكرة قال : قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ؟ قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، وكان متكئا فجلس ، فقال : ألا وقول الزور وشهادة الزور ، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت بأكبر الكبائر . ألا أنبئكم
وأخرج وغيره عن البخاري ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : . وأخرج الكبائر : الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين وقتل النفس - شك شعبة - واليمين الغموس البخاري ومسلم [ ص: 294 ] وغيرهما عن ابن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : . إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه ، قالوا : وكيف يلعن الرجل والديه ؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه
والأحاديث في تعداد الكبائر وتعيينها كثيرة جدا ، فمن رام الوقوف على ما ورد في ذلك ، فعليه بكتاب الزواجر في الكبائر ، فإنه قد جمع فأوعى . واعلم أنه لا بد من تقييد ما في هذه الآية من تكفير السيئات بمجرد اجتناب الكبائر بما أخرجه النسائي وابن ماجه وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن أبي هريرة وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلس على المنبر ثم قال : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم . والذي نفسي بيده ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويؤدي الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يوم القيامة حتى إنها لتصفق ، ثم تلا
وأخرج أبو عبيد في فضائله ، ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، ، والطبراني والحاكم ، والبيهقي في الشعب ، عن قال : إن في سورة النساء خمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها ، ولقد علمت أن العلماء إذا مروا بها يعرفونها : قوله تعالى : ابن مسعود إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية [ النساء : 31 ] ، وقوله : إن الله لا يظلم مثقال ذرة الآية [ النساء : 40 ] ، وقوله : إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية [ النساء : 48 ، 116 ] ، وقوله : ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك الآية [ النساء : 64 ] ، وقوله : ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه الآية [ النساء : 110 ] .