ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا
وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا هذا رجوع إلى بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى . وقد تقدم الأمر بدفع أموالهم إليهم في قوله تعالى : وآتوا اليتامى أموالهم [ النساء : 2 ] فبين سبحانه هاهنا أن . السفيه وغير البالغ لا يجوز دفع ماله إليه
وقد تقدم في البقرة معنى السفيه لغة . واختلف أهل العلم في هؤلاء السفهاء من هم ؟ فقال : هم اليتامى لا تؤتوهم أموالكم . قال سعيد بن جبير النحاس : وهذا من أحسن ما قيل في الآية . وقال مالك : هم الأولاد الصغار لا تعطوهم أموالكم فيفسدوها وتبقوا بلا شيء . وقال مجاهد : هم النساء . قال النحاس وغيره : وهذا القول لا يصح ، إنما تقول العرب سفائه أو سفيهات .
واختلفوا في وجه إضافة الأموال إلى المخاطبين وهي للسفهاء ، فقيل : أضافها إليهم ; لأنها بأيديهم وهم الناظرون فيها كقوله : [ ص: 272 ] فسلموا على أنفسكم [ النور : 6 ] ، وقوله : فاقتلوا أنفسكم [ البقرة : 54 ] أي : ليسلم بعضكم على بعض ، وليقتل بعضكم بعضا ، وقيل : أضافها إليهم ; لأنها من جنس أموالهم ، فإن الأموال جعلت مشتركة بين الخلق في الأصل ، وقيل : المراد أموال المخاطبين حقيقة ، وبه قال أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة . والمراد النهي عن دفعها إلى من لا يحسن تدبيرها كالنساء والصبيان ، ومن هو ضعيف الإدراك لا يهتدي إلى وجوه النفع التي تصلح المال ، ولا يتجنب وجوه الضرر التي تهلكه وتذهب به .
قوله : التي جعل الله لكم قياما المفعول الأول محذوف ، والتقدير التي جعلها الله لكم ، و ( قيما ) قراءة أهل المدينة وأبي عامر ، وقرأ غيرهم ( قياما ) وقرأ عبد الله بن عمر قواما . والقيام والقوام : ما يقيمك ، يقال : فلان قيام أهله وقوام بيته وهو الذي يقيم شأنه ; أي : يصلحه ، ولما انكسرت القاف في قوام أبدلوا الواو ياء . قال الكسائي : قيما وقواما بمعنى قياما ، وهو منصوب على المصدر ; أي : لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي تصلح بها أموركم فتقومون بها قياما وقال والفراء الأخفش : المعنى قائمة بأموركم ، فذهب إلى أنها جمع .
وقال البصريون قيما جمع قيمة كديمة وديم ; أي : جعلها الله قيمة للأشياء . وخطأ أبو علي الفارسي هذا القول وقال : هي مصدر كقيام وقوام .
والمعنى : أنها صلاح للحال وثبات له ، فأما على قول من قال إن المراد أموالهم على ما يقتضيه ظاهر الإضافة فالمعنى واضح . وأما على قول من قال إنها أموال اليتامى فالمعنى أنها من جنس ما تقوم معايشكم ويصلح به حالكم من الأموال .
وقرأ الحسن والنخعي ( اللاتي جعل ) قال الفراء : الأكثر في كلام العرب النساء اللواتي والأموال التي ، وكذلك غير الأموال ، ذكره النحاس . قوله : وارزقوهم فيها واكسوهم أي : اجعلوا لهم فيها رزقا أو افرضوا لهم وهذا فيمن تلزم نفقته وكسوته من الزوجات والأولاد ونحوهم .
وأما على قول من قال : إن الأموال هي أموال اليتامى ، فالمعنى اتجروا فيها حتى تربحوا وتنفقوهم من الأرباح ، أو اجعلوا لهم من أموالهم رزقا ينفقونه على أنفسهم ويكتسون به . وقد استدل بهذه الآية على جواز، وبه قال الجمهور . الحجر على السفهاء
أبو حنيفة لا يحجر على من بلغ عاقلا ، واستدل بها أيضا على وقال ، والخلاف في ذلك معروف في مواطنه . قوله : وجوب نفقة القرابة وقولوا لهم قولا معروفا قيل ادعوا لهم : بارك الله فيكم ، وحاطكم ، وصنع لكم ، وقيل : معناه : عدوهم وعدا حسنا قولوا لهم : إن رشدتم دفعنا إليكم أموالكم ، ويقول الأب لابنه : مالي سيصير إليك ، وأنت إن شاء الله صاحبه ونحو ذلك .
والظاهر من الآية ما يصدق عليه مسمى القول الجميل ففيه إرشاد إلى حسن الخلق مع الأهل والأولاد أو مع الأيتام المكفولين . وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما صح عنه . خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي
قوله : وابتلوا اليتامى الابتلاء : الاختبار . وقد تقدم تحقيقه . وقد اختلفوا في معنى الاختبار ، فقيل : هو أن يتأمل الوصي أخلاق يتيمه ليعلم بنجابته وحسن تصرفه فيدفع إليه ماله إذا بلغ النكاح وآنس منه الرشد ، وقيل : معنى الاختبار : أن يدفع إليه شيئا من ماله ويأمره بالتصرف فيه حتى يعلم حقيقة حاله ، وقيل : معنى الاختبار : أن يرد النظر إليه في نفقة الدار ليعرف كيف تدبيره ، وإن كانت جارية رد إليها ما يرد إلى ربة البيت من تدبير بيتها . والمراد ببلوغ النكاح بلوغ الحلم لقوله تعالى : وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم [ النور : 59 ] ومن علامات البلوغ الإنبات ، وبلوغ خمس عشرة سنة .
وقال مالك وأبو حنيفة وغيرهما : لا يحكم لمن لم يحتلم بالبلوغ إلا بعد مضي سبع عشرة سنة ، وهذه العلامات تعم الذكر والأنثى ، وتختص الأنثى بالحبل والحيض . قوله : فإن آنستم أي : أبصرتم ورأيتم ، ومنه قوله : آنس من جانب الطور نارا [ القصص : 29 ] .
قال الأزهري : تقول العرب : اذهب فاستأنس هل ترى أحدا ، معناه : تبصر ، وقيل : هو هنا بمعنى وجد وعلم ; أي : فإن وجدتم وعلمتم منهم رشدا . وقراءة الجمهور رشدا بضم الراء وسكون الشين .
وقرأ ابن مسعود والسلمي بفتح الراء والشين ، قيل : هما لغتان ، وقيل : هو بالضم مصدر رشد وبالفتح مصدر رشد . واختلف أهل العلم في معنى الرشد هاهنا ، فقيل : الصلاح في العقل والدين ، وقيل : في العقل خاصة . وعيسى الثقفي
قال سعيد بن جبير : إنه لا يدفع إلى اليتيم ماله إذا لم يؤنس رشده وإن كان شيخا . قال والشعبي الضحاك : وإن بلغ مائة سنة .
. وقال وجمهور العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم لا يزول عنه الحجر أبو حنيفة ، لا يحجر على الحر البالغ وإن كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا ، وبه قال النخعي وزفر وظاهر النظم القرآني أنها لا تدفع إليهم أموالهم إلا بعد بلوغ غاية هي بلوغ النكاح ، مقيدة هذه الغاية بإيناس الرشد ، فلا بد من مجموع الأمرين فلا تدفع إلى اليتامى أموالهم قبل البلوغ وإن كانوا معروفين بالرشد ، ولا بعد البلوغ إلا بعد إيناس الرشد منهم .
والمراد بالرشد نوعه وهو المتعلق بحسن التصرف في أمواله وعدم التبذير بها ووضعها في مواضعها . قوله : ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا : الإفراط ومجاوزة الحد . الإسراف في اللغة
وقال : السرف والتبذير ، والبدار المبادرة النضر بن شميل أن يكبروا في موضع نصب بقوله : بدارا أي لا تأكلوا أموال اليتامى أكل إسراف وأكل مبادرة لكبرهم ، أو لا تأكلوا لأجل السرف ولأجل المبادرة أو لا تأكلوها مسرفين ومبادرين لكبرهم وتقولوا ننفق أموال اليتامى فيما نشتهي قبل أن يبلغوا فينتزعوها من أيدينا . قوله : ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف بين سبحانه ما يحل لهم من أموال اليتامى ، فأمر الغني بالاستعفاف وتوفير مال الصبي عليه وعدم تناوله منه ، [ ص: 273 ] وسوغ للفقير أن يأكل بالمعروف .
واختلف أهل العلم في الأكل بالمعروف ما هو ؟ فقال قوم : هو القرض إذا احتاج إليه ويقضي متى أيسر الله عليه ، وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعبيدة السلماني وابن جبير والشعبي ومجاهد وأبو العالية . قال والأوزاعي النخعي وعطاء والحسن وقتادة : لا قضاء على الفقير فيما يأكل بالمعروف ، وبه قال جمهور العلماء . وهذا بالنظم القرآني ألصق ، فإن إباحة الأكل للفقير مشعرة بجواز ذلك له من غير قرض .
والمراد بالمعروف المتعارف به بين الناس ، فلا يترفه بأموال اليتامى ويبالغ في التنعم بالمأكول والمشروب والملبوس ، ولا يدع نفسه عن سد الفاقة وستر العورة . والخطاب في هذه الآية لأولياء الأيتام القائمين بما يصلحهم كالأب والجد ووصيهما .
وقال بعض أهل العلم : المراد بالآية اليتيم إن كان غنيا وسع عليه وعف من ماله ، وإن كان فقيرا كان الإنفاق عليه بقدر ما يحصل له ، وهذا القول في غاية السقوط . قوله : فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم أي : إذا حصل مقتضى الدفع فدفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم أنهم قد قبضوها منكم لتندفع عنكم التهم وتأمنوا عاقبة الدعاوى الصادرة منهم ، وقيل : إن الإشهاد المشروع هو ما أنفقه عليهم الأولياء قبل رشدهم ، وقيل هو على رد ما استقرضه إلى أموالهم ، وظاهر النظم القرآني مشروعية الإشهاد على ما دفع إليهم من أموالهم ، وهو يعم الإنفاق قبل الرشد ، والدفع للجميع إليهم بعد الرشد وكفى بالله حسيبا أي : حاسبا لأعمالكم شاهدا عليكم في كل شيء تعملونه ، ومن جملة ذلك معاملتكم لليتامى في أموالهم ، وفيه وعيد عظيم ، والباء زائدة ، أي كفى الله .
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس ولا تؤتوا السفهاء أموالكم يقول : لا تعمد إلى مالك وما خولك الله وجعله لك معيشة ، فتعطيه امرأتك أو ابنتك ، ثم تضطر إلى ما في أيديهم ، ولكن أمسك مالك وأصلحه ، وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤونتهم . قال : وقوله : ( قواما ) يعني قوامكم من معايشكم .
وأخرج ابن جرير عنه من طريق وابن أبي حاتم في الآية يقول : لا تسلط السفيه من ولدك على مالك وأمره أن يرزقه منه ويكسوه . وأخرج العوفي عنه قال : هم بنوك والنساء . ابن أبي حاتم
وأخرج عن ابن أبي حاتم أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : . وأخرج إن النساء السفهاء إلا التي أطاعت قيمها عن ابن أبي حاتم قال : هم الخدم ، وهم شياطين الإنس . وأخرج أبي هريرة ابن جرير وابن المنذر عن قال : النساء والصبيان . وأخرج ابن مسعود عن ابن جرير حضرمي : أن رجلا عمد فدفع ماله إلى امرأته فوضعته في غير الحق ، فقال الله : ولا تؤتوا السفهاء أموالكم .
وأخرج عبد بن حميد عن وابن جرير قال : هم اليتامى والنساء . وأخرج سعيد بن جبير عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال : هو مال اليتيم يكون عندك ، يقول : لا تؤته إياه وأنفق عليه حتى يبلغ .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن في قوله : ابن عباس وارزقوهم يقول : أنفقوا عليهم . وأخرج ابن جرير عن وابن أبي حاتم مجاهد وقولوا لهم قولا معروفا قال : أمروا أن يقولوا لهم قولا معروفا في البر والصلة .
وأخرج عن ابن جرير ابن جريج وقولوا لهم قولا معروفا قال : عدة تعدونهم . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن في قوله : ابن عباس وابتلوا اليتامى يعني اختبروا اليتامى عند الحلم فإن آنستم عرفتم منهم رشدا في حالهم والإصلاح في أموالهم فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا يعني تأكل مال اليتيم ببادرة قبل أن يبلغ فتحول بينه وبين ماله .
وأخرج وغيره عن البخاري عائشة قالت : أنزلت هذه الآية في ولي اليتيم ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف بقدر قيامه عليه . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وصححه عن وابن أبي حاتم ابن عباس ومن كان غنيا فليستعفف قال : بغناه . ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال : يأكل من ماله يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم .
وأخرج عنه قال : هو القرض . وأخرج ابن جرير عبد بن حميد والبيهقي عن قال : إن كان فقيرا أخذ من فضل اللبن وأخذ من فضل القوت ولا يجاوزه ، وما يستر عورته من الثياب ، فإن أيسر قضاه ، وإن أعسر فهو في حل . ابن عباس
وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه من طرق عن قال : إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة ولي اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن احتجت أخذت منه بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت . وأخرج عمر بن الخطاب أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن وابن أبي حاتم ابن عمر . أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ليس لي مال ولي يتيم فقال : كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا ، ومن غير أن تقي مالك بماله
وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ وابن المنذر عن في قوله : ابن عباس ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال : نسختها إن الذين يأكلون أموال اليتامى الآية [ النساء : 10 ] .