الآية ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية ، وأجمعها لجميع العلوم ، وآخرها عهدا برب العالمين جل وعلا ، يهدي للتي هي أقوم ; أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب . ف التي نعت لموصوف محذوف . على حد قول ابن مالك في الخلاصة :
وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه وفي النعت يقل
وقال الزجاج والكلبي : للحال التي هي أقوم الحالات ، وهي توحيد الله والإيمان برسله . والفراء
وهذه الآية الكريمة أجمل الله جل وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها ، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة . ولكننا إن شاء الله تعالى سنذكر جملا وافرة في جهات مختلفة كثيرة من هدى القرآن للطريق التي هي أقوم بيانا لبعض ما أشارت إليه الآية الكريمة ، تنبيها ببعضه على كله من المسائل العظام ، والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفار ، وطعنوا بسببها في دين الإسلام ، لقصور إدراكهم عن معرفة حكمها البالغة .
فمن ذلك توحيد الله جل وعلا ، فقد هدى القرآن فيه للطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها ، وهي توحيده جل وعلا في ربوبيته ، وفي عبادته ، وفي أسمائه وصفاته . وقد دل استقراء القرآن العظيم على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : ، وهذا النوع من التوحيد جبلت عليه فطر العقلاء ، قال تعالى : توحيده في ربوبيته ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله الآية [ 43 \ 87 ] ، وقال : قل من [ ص: 18 ] يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون [ 10 \ 31 ] ، وإنكار فرعون لهذا النوع من التوحيد في قوله : قال فرعون وما رب العالمين [ 26 \ 23 ] تجاهل عن عارف أنه عبد مربوب ; بدليل قوله تعالى : قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر الآية [ 17 \ 102 ] ، وقوله : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [ 27 \ 14 ] ، وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلا بإخلاص العبادة لله ، كما قال تعالى : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [ 12 \ 106 ] ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جدا .
الثاني : ، وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى " لا إله إلا الله " وهي متركبة من نفي وإثبات ، فمعنى النفي منها : خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت . ومعنى الإثبات منها : إفراد الله جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص ، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام . وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد ، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم توحيده جل وعلا في عبادته أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ 38 \ 5 ] .
ومن الآيات الدالة على هذا النوع من التوحيد قوله تعالى : فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك الآية [ 47 \ 19 ] ، وقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] ، وقوله : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 21 \ 25 ] ، وقوله : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون [ 43 \ 45 ] ، وقوله : قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون [ 21 \ 108 ] ، فقد أمر في هذه الآية الكريمة أن يقول : إنما أوحي إليه محصور في هذا النوع من التوحيد ، لشمول كلمة : " لا إله إلا الله " لجميع ما جاء في الكتب ; لأنها تقتضي طاعة الله بعبادته وحده . فيشمل ذلك جميع العقائد والأوامر والنواهي ، وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب ، والآيات في هذا النوع من التوحيد كثيرة .
النوع الثالث : . وهذا النوع من التوحيد [ ص: 19 ] ينبني على أصلين : توحيده جل وعلا في أسمائه وصفاته
الأول : تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم ، كما قال تعالى : ليس كمثله شيء [ 42 \ 11 ] .
والثاني : الإيمان بما وصف الله به نفسه ، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله وجلاله ، كما قال بعد قوله : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير مع قطع الطمع عن إدراك كيفية الاتصاف ، قال تعالى : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما [ 20 \ 110 ] ، وقد قدمنا هذا المبحث مستوفى موضحا بالآيات القرآنية " في سورة الأعراف " .
ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيته جل وعلا على وجوب توحيد في عبادته ; ولذلك يخاطبهم في توحيد الربوبية باستفهام التقرير ، فإذا أقروا بربوبيته احتج بها عليهم على أنه هو المستحق لأن يعبد وحده ، ووبخهم منكرا عليهم شركهم به غيره ، مع اعترافهم بأنه هو الرب وحده ; لأن من اعترف بأنه هو الرب وحده لزمه الاعتراف بأنه هو المستحق لأن يعبد وحده .
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار [ 10 \ 31 ] إلى قوله : فسيقولون الله [ 10 \ 31 ] . فلما أقروا بربوبيته وبخهم منكرا عليهم شركهم به غيره ، بقوله : فقل أفلا تتقون [ 10 \ 31 ] .
ومنها قوله تعالى : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله [ 23 \ 84 ، 85 ] ، فلما اعترفوا وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله : قل أفلا تذكرون [ 23 \ 85 ] ، ثم قال : قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله [ 23 \ 86 - 87 ] ، فلما أقروا وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله : قل أفلا تتقون [ 23 \ 87 ] ، ثم قال : قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله [ 23 \ 88 ، 89 ] ، فلما أقروا وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله : قل فأنى تسحرون [ 23 \ 89 ] .
ومنها قوله تعالى : قل من رب السماوات والأرض قل الله [ 13 \ 16 ] ، فلما صح الاعتراف وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله : قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا [ 13 \ 16 ] .
[ ص: 20 ] ومنها قوله تعالى : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ 43 \ 87 ] ، فلما صح إقرارهم وبخهم منكرا عليهم بقوله : فأنى يؤفكون [ 43 \ 87 ] .
ومنها قوله تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله [ 29 \ 61 ] ، فلما صح اعترافهم وبخهم منكرا شركهم بقوله : فأنى يؤفكون [ 29 \ 61 ] وقوله تعالى : ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله [ 29 \ 63 ] ، فلما صح إقرارهم وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله : قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون [ 29 \ 63 ] ، وقوله : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [ 31 \ 25 ] ، فلما صح اعترافهم وبخهم منكرا عليهم بقوله : قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون [ 31 \ 25 ] ، وقوله تعالى : آلله خير أم ما أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها [ 27 \ 59 - 60 ] ، ولا شك أن الجواب الذي لا جواب لهم البتة غيره : هو أن القادر على خلق السماوات والأرض وما ذكر معها ، خير من جماد لا يقدر على شيء . فلما تعين اعترافهم وبخهم منكرا عليهم بقوله : أإله مع الله بل هم قوم يعدلون [ 27 \ 60 ] ، ثم قال تعالى : أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا [ 27 \ 61 ] ولا شك أن الجواب الذي لا جواب غيره كما قبله ، فلما تعين اعترافهم وبخهم منكرا عليهم بقوله : أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون [ 27 \ 61 ] ، ثم قال جل وعلا : أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض [ 27 \ 62 ] ولا شك أن الجواب كما قبله . فلما تعين إقرارهم بذلك وبخهم منكرا عليهم بقوله : أإله مع الله قليلا ما تذكرون [ 27 \ 62 ] ، ثم قال تعالى : أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته [ 27 \ 63 ] ، ولا شك أن الجواب كما قبله ، فلما تعين إقرارهم بذلك وبخهم منكرا عليهم بقوله : أإله مع الله تعالى الله عما يشركون [ 27 \ 63 ] ، ثم قال جل وعلا : أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض [ 27 \ 64 ] ، ولا شك أن الجواب كما قبله ، فلما تعين الاعتراف وبخهم منكرا عليهم بقوله : أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [ 27 \ 64 ] ، وقوله : الله [ ص: 21 ] الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء [ 30 \ 40 ] ، ولا شك أن الجواب الذي لا جواب لهم غيره هو : لا ، أي : ليس من شركائنا من يقدر على أن يفعل شيئا من ذلك المذكور من الخلق والرزق والإماتة والإحياء ، فلما تعين اعترافهم وبخهم منكرا عليهم بقوله : سبحانه وتعالى عما يشركون [ 30 \ 40 ] .
والآيات بنحو هذا كثيرة جدا ، ولأجل ذلك ذكرنا في غير هذا الموضع أن كل الأسئلة المتعلقة بتوحيد الربوبية استفهامات تقرير ، يراد منها أنهم إذا أقروا رتب لهم التوبيخ والإنكار على ذلك الإقرار ; لأن المقر بالربوبية يلزمه الإقرار بالألوهية ضرورة ; نحو قوله تعالى : أفي الله شك [ 14 \ 10 ] ، وقوله : قل أغير الله أبغي ربا [ 6 \ 164 ] ، وإن زعم بعض العلماء أن هذا استفهام إنكار ; لأن استقراء القرآن دل على أن الاستفهام المتعلق بالربوبية استفهام تقرير وليس استفهام إنكار ، لأنهم لا ينكرون الربوبية ، كما رأيت كثرة الآيات الدالة عليه .
والكلام على أقسام التوحيد ستجده إن شاء الله في مواضع كثيرة من هذا الكتاب المبارك ، بحسب المناسبات في الآيات التي نتكلم على بيانها بآيات أخر .