الموضع الأول : بحسب ترتيب المصحف الكريم . قوله هنا في سورة الأعراف : إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين [ 54 ] .
الموضع الثاني : قوله تعالى في سورة يونس : إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده الآية [ \ 3 ، 4 ] .
الموضع الثالث : قوله تعالى في سورة الرعد : الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم [ ص: 29 ] يتفكرون وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون [ 2 ، 3 ، 4 ] .
الموضع الرابع : قوله تعالى في سورة طه : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا الرحمن على العرش استوى له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى [ 2 - 6 ] .
الموضع الخامس : قوله في سورة الفرقان : وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا [ 58 ، 59 ] .
الموضع السادس : قوله تعالى في سورة السجدة : الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض الآية [ 4 ، 5 ] .
الموضع السابع : قوله تعالى في سورة الحديد : هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم [ 4 ] .
وقال جل وعلا في وصف الحادث بالاستواء على بعض المخلوقات : لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه الآية [ 43 \ 13 ] ، فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك الآية [ 23 \ 28 ] ، واستوت على الجودي الآية [ 11 \ 44 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
وقد علمت مما تقدم أنه لا إشكال في ذلك ، وأن للخالق جل وعلا استواء لائقا بكماله وجلاله ، وللمخلوق أيضا استواء مناسبا لحاله ، وبين استواء الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق ; على نحو ليس كمثله شيء وهو السميع البصير كما تقدم إيضاحه .
وينبغي للناظر في هذه المسألة التأمل في أمور :
الأمر الأول : أن جميع الصفات من باب واحد ، لأن الموصوف بها واحد ، ولا [ ص: 30 ] يجوز في حقه مشابهة الحوادث في شيء من صفاتهم ، فمن أثبت مثلا أنه : سميع بصير ، وسمعه وبصره مخالفان لأسماع الحوادث وأبصارهم ، لزمه مثل ذلك في جميع الصفات ; كالاستواء ، واليد ، ونحو ذلك من صفاته جل وعلا ، ولا يمكن الفرق بين ذلك بحال .
الأمر الثاني : أن الذات والصفات من باب واحد أيضا ، فكما أنه جل وعلا ، له ذات مخالفة لجميع ذوات الخلق ، فله تعالى صفات مخالفة لجميع صفات الخلق .
الأمر الثالث : في تحقيق المقام في الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من آيات الصفات ; كالاستواء واليد مثلا .
اعلم أولا : أنه غلط في هذا خلق لا يحصى كثرة من المتأخرين ، فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معنى الاستواء واليد مثلا في الآيات القرآنية - هو مشابهة صفات الحوادث ، وقالوا : يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعا ; لأن اعتقاد ظاهره كفر ; لأن ، ولا يخفى على أدنى عاقل أن حقيقة معنى هذا القول : أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله والقول فيه بما لا يليق به جل وعلا . من شبه الخالق بالمخلوق فهو كافر
والنبي صلى الله عليه وسلم الذي قيل له : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ 16 \ 44 ] ، لم يبين حرفا واحدا من ذلك مع إجماع من يعتد به من العلماء ، على أنه صلى الله عليه وسلم : ، وأحرى في العقائد ولا سيما ما ظاهره المتبادر منه الكفر والضلال المبين ، حتى جاء هؤلاء الجهلة من المتأخرين ، فزعموا أن الله أطلق على نفسه الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق ، والنبي صلى الله عليه وسلم كتم أن ذلك الظاهر المتبادر كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه ، وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتاب أو سنة ، سبحانك هذا بهتان عظيم . لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه
ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والحق الذي لا يشك فيه أدنى عاقل أن كل وصف وصف الله به نفسه ، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، فظاهره المتبادر منه السابق إلى فهم من في قلبه شيء من الإيمان ، هو التنزيه التام عن مشابهة شيء من صفات الحوادث .
[ ص: 31 ] الفهم المتبادر لكل عاقل : هو منافاة الخالق للمخلوق في ذاته ، وجميع صفاته ، لا والله لا ينكر ذلك إلا مكابر .
والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات لا يليق بالله لأنه كفر وتشبيه - إنما جر إليه ذلك تنجيس قلبه ، بقدر التشبيه بين الخالق والمخلوق ، فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله جل وعلا ، وعدم الإيمان بها ، مع أنه جل وعلا ، هو الذي وصف بها نفسه ، فكان هذا الجاهل مشبها أولا ، ومعطلا ثانيا ، فارتكب ما لا يليق بالله ابتداء وانتهاء ، ولو كان قلبه عارفا بالله كما ينبغي ، معظما لله كما ينبغي ، طاهرا من أقذار التشبيه - لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه : أن وصف الله جل وعلا ، بالغ من الكمال ، والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين ، فيكون قلبه مستعدا للإيمان بصفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن والسنة الصحيحة ، مع على نحو قوله : التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فلو قال متنطع : بينوا لنا كيفية الاتصاف بصفة الاستواء واليد ، ونحو ذلك لنعقلها ، قلنا : أعرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة بتلك الصفات ؟
فلا بد أن يقول : لا ، فنقول : معرفة كيفية الاتصاف بالصفات متوقفة على معرفة كيفية الذات ، فسبحان من لا يستطيع غيره أن يحصي الثناء عليه هو ، كما أثنى على نفسه : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما [ 20 \ 110 ] ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد [ 112 \ 1 - 4 ] ، فلا تضربوا لله الأمثال [ 16 \ 74 ] .
فتحصل من جميع هذا البحث أن الصفات من باب واحد ، وأن الحق فيها متركب من أمرين :
الأول : . تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة الخلق
والثاني : ; وهذا هو معنى قوله تعالى : الإيمان بكل ما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتا ، أو نفيا ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، والسلف الصالح ، رضي الله عنهم ما كانوا يشكون في شيء من ذلك ، ولا كان يشكل عليهم ، ألا ترى إلى [ ص: 32 ] قول وهو شاعر فقط ، وأما من جهة العلم ، فهو عامي [ الطويل ] : الفرزدق
وكيف أخاف الناس والله قابض على الناس والسبعين في راحة اليد
ومراده بالسبعين : سبع سماوات ، وسبع أرضين . فمن علم مثل هذا من كون السماوات والأرضين في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل ، فإنه عالم بعظمة الله وجلاله لا يسبق إلى ذهنه مشابهة صفاته لصفات الخلق ، ومن كان كذلك زال عنه كثير من الإشكالات التي أشكلت على كثير من المتأخرين ، وهذا الذي ذكرنا من تنزيه الله جل وعلا عما لا يليق به ، والإيمان بما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، هو معنى قول رحمه الله : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والسؤال عنه بدعة . الإمام مالكويروى نحو قول مالك هذا عن شيخه ، ربيعة بن أبي عبد الرحمن رضي الله عنها ، والعلم عند الله تعالى . وأم سلمة