قوله تعالى : وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه عرض الأمانة ، وهي التكاليف مع ما يتبعها من ثواب وعقاب على السماوات والأرض والجبال ، وأنهن أبين أن يحملنها وأشفقن منها ، أي : خفن من عواقب حملها أن ينشأ لهن من ذلك عذاب الله وسخطه ، وهذا العرض والإباء ، والإشفاق كله حق ، وقد خلق الله للسماوات والأرض والجبال إدراكا يعلمه هو جل وعلا ، ونحن لا نعلمه ، وبذلك الإدراك أدركت عرض الأمانة عليها ، وأبت وأشفقت ، أي : خافت .
ومثل هذا تدل عليه آيات وأحاديث كثيرة ، فمن الآيات الدالة على إدراك الجمادات المذكور : قوله تعالى في سورة " البقرة " ، في الحجارة : وإن منها لما يهبط من خشية الله [ 2 \ 74 ] ، فصرح بأن من الحجارة ما يهبط من خشية الله ، وهذه الخشية التي نسبها الله لبعض الحجارة بإدراك يعلمه هو تعالى .
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى : تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم الآية [ 17 \ 44 ] ، [ ص: 259 ] ومنها قوله تعالى : وسخرنا مع داود الجبال يسبحن [ 21 \ 79 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
ومن الأحاديث الصحيحة الدالة على ذلك قصة حنين الجذع ، الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم لما انتقل بالخطبة إلى المنبر ، وهي في صحيح وغيره . البخاري
ومنها ما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : مكة " ، وأمثال هذا كثيرة . فكل ذلك المذكور في الكتاب والسنة إنما يكون بإدراك يعلمه الله ، ونحن لا نعلمه ; كما قال تعالى : " إني لأعرف حجرا كان يسلم علي في ولكن لا تفقهون تسبيحهم [ 17 \ 44 ] ، ولو كان المراد بتسبيح الجمادات دلالتها على خالقها لكنا نفقهه ، كما هو معلوم ، وقد دلت عليه آيات كثيرة .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ، الظاهر أن المراد بالإنسان آدم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ، وأن الضمير في قوله : إنه كان ظلوما جهولا ، راجع للفظ : الإنسان ، مجردا عن إرادة المذكور منه ، الذي هو آدم .
والمعنى : أنه أي الإنسان الذي لا يحفظ الأمانة كان ظلوما جهولا ، أي : كثير الظلم والجهل ، والدليل على هذا أمران :
أحدهما : قرينة قرآنية دالة على انقسام الإنسان في المذكورة إلى معذب ومرحوم في قوله تعالى بعده ، متصلا به : حمل الأمانة ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما [ 33 \ 73 ] ، فدل هذا على أن الظلوم الجهول من الإنسان هو المعذب ، والعياذ بالله ، وهم المنافقون والمنافقات ، والمشركون والمشركات ، دون المؤمنين والمؤمنات . واللام في قوله : ليعذب : لام التعليل ، وهي متعلقة بقوله : وحملها الإنسان .
الأمر الثاني : أن الأسلوب المذكور - الذي هو رجوع الضمير إلى مجرد اللفظ دون اعتبار المعنى التفصيلي - معروف في اللغة التي نزل بها القرآن ، وقد جاء فعلا في آية من كتاب الله ، وهي قوله تعالى وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب [ 35 \ 11 ] ; [ ص: 260 ] لأن الضمير في قوله : ولا ينقص من عمره ، راجع إلى لفظ المعمر دون معناه التفصيلي ; كما هو ظاهر ، وقد أوضحناه في سورة " الفرقان " ، في الكلام على قوله تعالى : وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا [ 25 \ 61 ] ، وبينا هناك أن هذه المسألة هي المعروفة عند علماء العربية بمسألة : عندي درهم ونصفه ، أي : نصف درهم آخر ، كما ترى . وبعض من قال من أهل العلم إن الضمير في قوله : إنه كان ظلوما جهولا ، عائد إلى آدم ، قال : المعنى أنه كان ظلوما لنفسه جهولا ، أي : غرا بعواقب الأمور ، وما يتبع الأمانة من الصعوبات ، والأظهر ما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى .