عطف تشريع يختص بالمعاملة مع ذوي القربى والضعفاء ، وقدم له الأمر بعبادة الله تعالى وعدم الإشراك على وجه الإدماج ، للاهتمام بهذا الأمر وأنه أحق ما يتوخاه المسلم ، تجديدا لمعنى التوحيد في نفوس المسلمين كما قدم لذلك في طالع السورة بقوله : اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة . والمناسبة هي ما أريد جمعه في هذه السورة من أحكام أواصر القرابة في النسب والدين والمخالطة .
والخطاب للمؤمنين ، ولذلك قدم الأمر بالعبادة على النهي عن الإشراك لأنهم قد تقرر نفي الشرك بينهم وأريد منهم دوام العبادة لله ، والاستزادة منها ، ونهوا عن الشرك تحذيرا مما كانوا عليه في الجاهلية ، ومجموع الجملتين في قوة صيغة حصر ; إذ مفاده : اعبدوا الله ولا تعبدوا غيره فاشتمل على معنى إثبات ونفي ، كأنه قيل : لا تعبدوا إلا الله . والعدول عن طريق القصر في مثل هذا طريقة عربية جاء عليها قول السموأل ، أو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي :
تسيل على حد الظبات نفوسنا وليست على غير الظبات تسيل
وإنما يصار إليها عندما يكون الغرض الأول هو طرف الإثبات ، ثم يقصد بعد ذلك نفي الحكم عما عدا المثبت له ، لأنه إذا جيء بالقصر كان المقصد الأول هو نفي الحكم عما عدا المذكور وذلك غير مقتضى المقام هنا ، ولأجل ذلك لما خوطب بنو إسرائيل بنظير هذه الآية خوطبوا بطريقة القصر في قوله : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا الآية ، لأن المقصود الأول إيقاظهم إلى إبطال عبادة غير الله ، لأنهم قالوا لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة ولأنهم عبدوا العجل في مدة مناجاة موسى ربه ، فأخذ عليهم الميثاق بالنهي عن عبادة غير الله .[ ص: 49 ] وكذلك البيت فإن الغرض الأهم هو التمدح بأنهم يقتلون في الحرب ، فتزهق نفوسهم بالسيوف ، ثم بدا له فأعقبه بأن ذلك شنشنة فيهم لا تتخلف ولا مبالغة فيها .
و " شيئا " منصوب على المفعولية لـ " تشركوا " أي لا تجعلوا شريكا شيئا مما يعبد كقوله : ولن نشرك بربنا أحدا ويجوز انتصابه على المصدرية للتأكيد ، أي شيئا من الإشراك ولو ضعيفا كقوله : فلن يضروك شيئا .
وقوله : وبالوالدين إحسانا اهتمام بشأن الوالدين إذ جعل الأمر بالإحسان إليهما عقب الأمر بالعبادة ، كقوله : أن اشكر لي ولوالديك ، وقوله : يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ووصينا الإنسان بوالديه ، ولذا قدم معمول " إحسانا " عليه تقديما للاهتمام إذ لا معنى للحصر هنا لأن الإحسان مكتوب على كل شيء ، ووقع المصدر موقع الفعل ، وإنما عدي الإحسان بالباء لتضمينه معنى البر . وشاعت تعديته بالباء في القرآن في مثل هذا . وعندي أن الإحسان إنما يعدى بالباء إذا أريد به الإحسان المتعلق بمعاملة الذات وتوقيرها وإكرامها ، وهو معنى البر ولذلك جاء وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن ; وإذا أريد به إيصال النفع المالي عدي بإلى ، تقول : أحسن إلى فلان ، إذا وصله بمال ونحوه .
" وذي القربى " صاحب القرابة ، والقربى فعلى ، اسم للقرب مصدر قرب كالرجعى ، والمراد بها قرابة النسب ، كما هو الغالب في هذا المركب الإضافي ، وهو قولهم : ذو القربى ، وإنما أمر بالإحسان إليه استبقاء لأواصر الود بين الأقارب ، إذ كان العرب في الجاهلية قد حرفوا حقوق القرابة فجعلوها سبب تنافس وتحاسد وتقاتل . وأقوالهم في ذلك كثيرة في شعرهم ; قال أرطاة بن سهية :
ونحن بنو عم على ذاك بيننا زرابي فيها بغضة وتنافس
وقوله " واليتامى والمساكين " هذان صنفان ضعيفان عديما النصير ، فلذلك أوصي بهما .
هو النزيل بقرب منزلك ، ويطلق على النزيل بين القبيلة في جوارها ، فالمراد بـ والجار الجار ذي القربى الجار النسيب من القبيلة ، وبـ الجار الجنب الجار الغريب الذي نزل بين القوم وليس من القبيلة ، فهو جنب ، أي بعيد ، مشتق من الجانب ، وهو وصف على وزن فعل ، كقولهم : ناقة أجد ، وقيل : هو مصدر ، ولذلك لم يطابق موصوفه ، قال بلعاء بن قيس :
لا يجتوينا مجـاور أبـدا ذو رحم أو مجاور جنب
فلا تحرمني نائلا عن جـنـاية فإني امرؤ وسط القباب غريب
وأكدت السنة في أحاديث كثيرة : ففي الوصاية بالجار عن البخاري عائشة أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - : جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه . وفيه عن قال : ما زال أبي شريح : أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - خرج وهو يقول وفيه عن والله لا [ ص: 51 ] يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ، قيل : من يا رسول الله ؟ قال : من لا يأمن جاره بوائقه عائشة ، قلت : يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي ؟ قال وفي صحيح إلى أقربهما منك بابا مسلم : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر . واختلف في إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهده جيرانك : فقال حد الجوار ابن شهاب ، : أربعون دارا من كل ناحية ، وروي في ذلك حديث ، وليس عن والأوزاعي مالك في ذلك حد ، والظاهر أنه موكول إلى ما تعارفه الناس .
وقوله : والصاحب بالجنب هو المصاحب الملازم للمكان ، فمنه الضيف ، ومنه الرفيق في السفر ، وكل من هو ملم بك لطلب أن تنفعه ، وقيل : أراد الزوجة .
هو الغريب المجتاز بقوم غير ناو الإقامة ، لأن من أقام فهو الجار الجنب . وكلمة ( ابن ) فيه مستعملة في معنى الانتساب والاختصاص ، كقولهم : أبو الليل ، وقولهم في المثل : أبوها وكيالها . والسبيل : الطريق السابلة ، فابن السبيل هو الذي لازم الطريق سائرا ، أي مسافرا ، فإذا دخل القبيلة فهو ليس من أبنائها ، فعرفوه بأنه ابن الطريق ، رمى به الطريق إليهم ، فكأنه ولده . والوصاية به لأنه ضعيف الحيلة ، قليل النصير ، إذ لا يهتدي إلى أحوال قوم غير قومه ، وبلد غير بلده . وابن السبيل
وكذلك ما ملكت أيمانكم لأن العبيد في ضعف الرق والحاجة وانقطاع سبل الخلاص من سادتهم ، فلذلك كانوا أحقاء بالوصاية .
وجملة إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا تذييل لجملة الأمر بالإحسان إلى من سماهم بذم موانع الإحسان إليهم الغالبة على البشر . والاختيال : التكبر ، افتعال مشتق من الخيلاء ، يقال : خال الرجل خولا وخالا . والفخور : الشديد الفخر بما فعل ، وكلا الوصفين منشأ للغلظة والجفاء ، فهما ينافيان الإحسان المأمور به ، لأن المراد الإحسان في المعاملة وترك الترفع على من يظن به سبب يمنعه من الانتقام .
ومعنى نفي محبة الله تعالى نفي رضاه وتقريبه عمن هذا وصفه ، وهذا تعريض بأخلاق أهل الشرك ، لما عرفوا به من الغلظة والجفاء ، فهو في معنى التحذير من بقايا الأخلاق التي كانوا عليها .