معطوف على التقرير الذي في قوله : ألم نجعل الأرض مهادا . والتقدير : وخلقناكم أزواجا ، فكان التقرير هنا على أصله ؛ إذ المقرر عليه هو وقوع الخلق ، فلذلك لم يقل : ألم نخلقكم أزواجا .
[ ص: 16 ] وعبر هنا بفعل الخلق دون الجعل ; لأنه تكوين ذواتهم ، فهو أدق من الجعل .
وضمير الخطاب للمشركين الذين وجه إليهم التقرير بقوله : ألم نجعل الأرض مهادا ، وهو التفات من طريق الغيبة إلى طريق الخطاب .
والمعطوف عليه وإن كان فعلا مضارعا فدخول ( لم ) عليه صيره في معنى الماضي لما هو مقرر من أن ( لم ) تقلب معنى المضارع إلى المضي ، فلذلك حسن عطف ( خلقناكم ) على ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا ، والكل تقرير على شيء مضى .
وإنما عدل عن أن يكون الفعل فعلا مضارعا مثل المعطوف هو عليه ; لأن صيغة المضارع تستعمل لقصد استحضار الصورة للفعل كما في قوله تعالى : فتثير سحابا ، فالإتيان بالمضارع في ألم نجعل الأرض مهادا يفيد استدعاء إعمال النظر في خلق الأرض والجبال ؛ إذ هي مرئيات لهم . والأكثر أن يغفل الناظرون عن التأمل في دقائقها لتعودهم بمشاهدتها من قبل سن التفكر ، فإن الأرض تحت أقدامهم لا يكادون ينظرون فيها بله أن يتفكروا في صنعها ، والجبال يشغلهم عن التفكر في صنعها شغلهم بتجشم صعودها ، والسير في وعرها ، وحراسة سوائمهم من أن تضل شعابها ، وصرف النظر إلى مسالك العدو عند الاعتلاء إلى مراقبها ، فأوثر الفعل المضارع مع ذكر المصنوعات الحرية بدقة التأمل واستخلاص الاستدلال ليكون إقرارهم مما قرروا به على بصيرة ، فلا يجدوا إلى الإنكار سبيلا .
وجيء بفعل المضي في قوله : وخلقناكم أزواجا وما بعده ; لأن مفاعيل فعل ( خلقنا ) وما عطف عليه ليست مشاهدة لهم .
وذكر لهم من المصنوعات ما هو شديد الاتصال بالناس من الأشياء التي تتوارد أحوالها على مدركاتهم دواما ؛ فإقرارهم بها أيسر ; لأن دلالتها قريبة من البديهي . وقد أعقب الاستدلال بخلق الأرض وجبالها بالاستدلال بخلق الناس للجمع بين إثبات التفرد بالخلق وبين الدلالة على إمكان إعادتهم ، والدليل في خلق الناس على الإبداع العظيم الذي الخلق الثاني من نوعه أمكن في نفوس المستدل عليهم ، قال تعالى : وفي أنفسكم أفلا تبصرون . وللمناسبة التي قدمنا ذكرها في توجيه [ ص: 17 ] الابتداء بخلق الأرض في الاستدلال فهي أن من الأرض يخرج الناس للبعث فكذلك ثني بالاستدلال بخلق الناس الأول ; لأنهم الذين سيعاد خلقهم يوم البعث وهم الذين يخرجون من الأرض ، وفي هذا المعنى جاء قوله تعالى : ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا .
وانتصب أزواجا على الحال من ضمير الخطاب في ( خلقناكم ) ; لأن المقصود الاستدلال بخلق الناس وبكون الناس أزواجا ، فلما كان المناسب لفعل خلقنا أن يتعدى إلى الذوات جيء بمفعوله ضمير ذوات الناس ، ولما كان المناسب لكونهم أزواجا أن يساق مساق إيجاد الأحوال جيء به حالا من ضمير الخطاب في ( خلقناكم ) ، ولو صرح له بفعل لقيل : وخلقناكم وجعلناكم أزواجا ، على نحو ما تقدم في قوله : ألم نجعل الأرض مهادا ومما يأتي من قوله : وجعلنا نومكم سباتا .
والأزواج : جمع زوج وهو اسم للعدد الذي يكرر الواحد تكريرة واحدة ، وقد وصف به كما يوصف بأسماء العدد في نحو قول لبيد :
حتى إذا سلخا جمادى ستة
ثم غلب الزواج على كل من الذكر وأنثاه من الإنسان والحيوان ، فقوله : ( أزواجا ) أفاد أن يكون الذكر زوجا للأنثى والعكس ، فالذكر زوج لأنثاه والأنثى زوج لذكرها ، وتقدم ذلك عند قوله تعالى : وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة في سورة البقرة .
وفي قوله : وخلقناكم أزواجا إيماء إلى ما في ذلك الخلق من حكمة إيجاد قوة التناسل من اقتران الذكر بالأنثى ، وهو مناط الإيماء إلى فإن القادر على إيجاد هذا التكوين العجيب ابتداء بقوة التناسل قادر على إيجاد مثله بمثل تلك الدقة أو أدق . الاستدلال على إمكان إعادة الأجساد ،
وفيه استدلال على وحكمته ، وامتنان على الناس بأنه خلقهم ، وأنه خلقهم بحالة تجعل لكل واحد من الصنفين ما يصلح لأن يكون له زوجا [ ص: 18 ] ليحصل التعاون والتشارك في الأنس والتنعم ، قال تعالى : عظيم قدرة الله وجعل منها زوجها ليسكن إليها ولذلك صيغ هذا التقرير بتعليق فعل ( خلقنا ) بضمير الناس . وجعل أزواجا حالا منه ليحصل بذلك الاعتبار بكلا الأمرين دون أن يقال : وخلقنا لكم أزواجا .
وفي ذلك حمل لهم على الشكر بالإقبال على النظر فيما بلغ إليهم عن الله الذي أسعفهم بهذه النعم على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعريض بأن إعراضهم عن قبول الدعوة الإسلامية ومكابرتهم فيما بلغهم من ذلك كفران لنعمة واهب النعم .