عود إلى ، فهذا المثل راجع إلى قوله التحريض على الإنفاق في سبيل الله يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم وهو استئناف بياني لأن قوله من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه الآية . يثير في نفوس السامعين الاستشراف لما يلقاه المنفق في سبيل الله يومئذ بعد أن أعقب بدلائل ومواعظ وعبر ، وقد تهيأت نفوس السامعين إلى التمحض لهذا فأطيل الكلام فيه إطالة تناسب أهميته .
وقوله : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله تشبيه حال جزائهم وبركتهم ، والصلة مؤذنة بأن المراد خصوص حال إنفاقهم بتقدير " مثل نفقة الذين " وقد شبه حال إعطاء النفقة ومصادفتها موقعها وما أعطي من الثواب لهم بحال حبة أنبتت سبع سنابل إلخ ، أي زرعت في أرض نقية وتراب طيب وأصابها الغيث فأنبتت سبع سنابل ، وحذف ذلك كله إيجازا ؛ لظهور أن الحبة لا تنبت ذلك إلا كذلك ، فهو من تشبيه المعقول بالمحسوس ، والمشبه به هيأة معلومة ، وجعل أصل التمثيل في التضعيف حبا لأن تضعيفها من ذاتها لا بشيء يزاد عليها ، وقد شاع تشبيه المعروف بالزرع وتشبيه الساعي بالزارع ، وفي المثل : ( رب ساع لقاعد وزارع غير حاصد ) ولما كانت المضاعفة تنسب إلى أصل وحدة ، فأصل الوحدة هنا هي ما يثيب الله به على الحسنات الصغيرة ، أي : ما يقع ثوابا على أقل الحسنات كمن هم بحسنة فلم يعملها ، فإنه في حسنة الإنفاق في سبيل الله يكون سبعمائة ضعف .
قال الواحدي في أسباب النزول وغيره : إن هذه الآية نزلت في عثمان بن عفان ، ذلك وعبد الرحمن بن عوف تبوك حث الناس على الإنفاق في سبيل الله ، وكان الجيش يومئذ بحاجة إلى الجهاز ، وهو جيش العسرة ، فجاءه بأربعة آلاف وقال عبد الرحمن بن عوف : علي جهاز من لا جهاز له . فجهز الجيش بألف بعير بأقتابها وأحلاسها . وقيل : جاء بألف دينار ذهبا فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أراد [ ص: 42 ] الخروج إلى غزوة
ومعنى قوله : والله يضاعف لمن يشاء أن المضاعفة درجات كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى ؛ لأنه تترتب على أحوال المتصدق وأحوال المتصدق عليه وأوقات ذلك وأماكنه ، وللإخلاص وقصد الامتثال ومحبة الخير للناس والإيثار على النفس وغير ذلك مما يحف بالصدقة والإنفاق تأثير في تضعيف الأجر " والله واسع عليم " .
وأعاد قوله : الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله إظهارا للاهتمام بهذه الصلة ، وقوله : ثم لا يتبعون جاء في عطفه بـ ( ثم ) مع أن الظاهر أن يعطف بالواو ، قال في الكشاف : لإظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى ، وأن تركهما خير من نفس الإنفاق . يعني أن ( ثم ) للترتيب الرئيسي لا للمهلة الزمنية ترفيعا لرتبة ترك المن والأذى على رتبة الصدقة ، لأن العطاء قد يصدر عن كرم النفس وحب المحمدة ؛ فللنفوس حظ فيه مع حظ المعطى ، بخلاف ترك المن والأذى فلا حظ فيه لنفس المعطي ، إذ شبه حصول الشيء المهم في عزة حصوله بحصول الشيء المتأخر زمنه ، وكأن الذي دعا إلى هذا أنه رأى معنى المهلة هنا غير مراد ؛ لأن المراد حصول الإنفاق وترك المن معا . الزمخشري
والمن أصله الإنعام والفضل ، يقال : من عليه منا . ثم أطلق على عد الإنعام على المنعم عليه ، ومنه قوله تعالى : ولا تمنن تستكثر وهو إذا ذكر بعد الصدقة والعطاء تعين للمعنى الثاني .
وإنما يكون بالتطاول على المسلمين المن في الإنفاق في سبيل الله ، وبالتطاول على المجاهدين الذين يجهزهم أو يحملهم ، وليس من المن التمدح بمواقف المجاهد في الجهاد أو بمواقف قومه ، فقد قال والرياء بالإنفاق الحريش بن هلال القريعي يذكر خيله في غزوة فتح مكة ويوم حنين :
[ ص: 43 ]
شهدن مع النبيء مسومات حنينا وهي دامية الحوامي ووقعة خالد شهدت وحكت
سنابكها على البلد الحرام
حتى إذا قال النبيء محمد أبني سليم قد وفيتم فارجعوا
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
علي لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب