[ ص: 226 ] nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=8nindex.php?page=treesubj&link=28998_31910فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=9يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=10وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=11إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم .
أنث ضمير ( جاءها ) جريا على ما تقدم من تسمية النور نارا بحسب ما لاح
لموسى . وتقدم ذكر هذه القصة في سورة طه ، فبنا أن نتعرض هنا لما انفردت به هذه الآيات من المفردات والتراكيب ، فقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=8أن بورك من في النار ومن حولها هو بعض ما اقتضاه قوله في طه :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=12فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى ; لأن معنى ( بورك ) قدس وزكي .
وفعل ( بارك ) يستعمل متعديا ، يقال : باركك الله ، أي : جعل لك بركة . وتقدم بيان معنى البركة في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=96للذي ببكة مباركا في آل عمران ، وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=48وبركات عليك وعلى أمم ممن معك في سورة هود . و ( أن ) تفسيرية لفعل ( نودي ) ; لأن فيه معنى القول دون حروفه ، أي : نودي بهذا الكلام .
و (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=8من في النار ) مراد به
موسى فإنه لما حل في موضع النور صار محيطا به فتلك الإحاطة تشبه إحاطة الظرف بالمظروف ، فعبر عنه ب (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=8من في النار ) وهو نفسه .
والعدول عن ذكره بضمير الخطاب كما هو مقتضى الظاهر ، أو باسمه العلم إن أريد العدول عن مقتضى الظاهر ; لأن في معنى صلة الموصول إيناسا له وتلطفا كقول النبيء صلى الله عليه وسلم
لعلي :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10342283قم أبا تراب وكثير التلطف بذكر بعض ما التبس به المتلطف به من أحواله . وهذا الكلام خبر هو بشارة
لموسى عليه السلام ببركة النبوءة .
ومن حول النار : هو
جبريل الذي أرسل إليه بما نودي به والملائكة الذين وكل إليهم إنارة المكان وتقديسه إن كان النداء بغير واسطة
جبريل بل كان من لدن
[ ص: 227 ] الله تعالى . فهذا التبريك تبريك ذوات لا تبريك مكان بدليل ذكر ( من ) الموصولة في الموضعين ، وهو تبريك الاصطفاء الإلهي بالكرامة . وقيل : إن قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=8أن بورك من في النار إنشاء تحية من الله تعالى إلى
موسى عليه السلام كما كانت تحية الملائكة
لإبراهيم nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=73رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت أي : أهل هذا البيت الذي نحن فيه .
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=8وسبحان الله رب العالمين عطف على ما نودي به
موسى على صريح معناه إخبارا بتنزيه الله تعالى عما لا يليق بإلهيته من أحوال المحدثات ليعلم
موسى أمرين : أحدهما أن النداء وحي من الله تعالى ، والثاني أن الله منزه عما عسى أن يخطر بالبال أن جلالته في ذلك المكان . ويجوز أن يكون ( سبحان الله ) مستعملا للتعجيب من ذلك المشهد وأنه أمر عظيم من أمر الله تعالى وعنايته يقتضي تذكر تنزيهه وتقديسه .
وفي حذف متعلق التنزيه إيذان بالعموم المناسب لمصدر التنزيه وهو عموم
nindex.php?page=treesubj&link=29625الأشياء التي لا يليق إثباتها لله تعالى وإنما يعلم تفصيلها بالأدلة العقلية والشرعية .
فالمعنى : ونزه الله تنزيها عن كل ما لا يليق به ، ومن أول تلك الأشياء تنزيهه عن أن يكون حالا في ذلك المكان .
وإرداف اسم الجلالة بوصف (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=8رب العالمين ) فيه معنى التعليل للتنزيه عن شئون المحدثات ; لأنه رب العالمين فلا يشبه شأنه تعالى شئونهم .
وضمير ( إنه ) ضمير الشأن ، وجملة (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=9أنا الله العزيز الحكيم ) خبر عن ضمير الشأن . والمعنى : إعلامه بأن أمرا مهما يجب علمه وهو أن الله عزيز حكيم ، أي : لا يغلبه شيء ، لا يستصعب عليه تكوين .
وتقديم هذا بين يدي ما سيلقى إليه من الأمر لإحداث رباطة جأش
لموسى ليعلم أنه خلعت عليه النبوءة ; إذ ألقي إليه الوحي ، ويعلم أنه سيتعرض إلى أذى وتألب عليه . وذلك كناية عن كونه سيصير رسولا ، وأن الله يؤيده وينصره على كل قوي ، وليعلم أن ما شاهد من النار وما تلقاه من الوحي وما سيشاهده من قلب العصا حية ليس بعجيب في جانب حكمة الله تعالى فتلك ثلاث كنايات فلذلك
[ ص: 228 ] أتبع هذا بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=10وألق عصاك . والمعنى : وقلنا : ألق عصاك .
والاهتزاز : الاضطراب ، وهو افتعال من الهز وهو الرفع ، كأنها تطاوع فعل هاز يهزها . والجان : ذكر الحيات ، وهو شديد الاهتزاز وجمعه جنان ( وأما الجان بمعنى واحد الجن فاسم جمعه جن ) . والتشبيه في سرعة الاضطراب ; لأن الحيات خفيفة التحرك ، وأما تشبيه العصا بالثعبان في آية
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=107فإذا هي ثعبان مبين فذلك لضخامة الجرم .
والتولي : الرجوع عن السير في طريقه . وفعل ( تولى ) مرادف فعل ( ولى ) كما هو ظاهر صنيع القاموس وإن كان مقتضى ما في فعل ( تولى ) من زيادة المبنى أن يفيد ( تولى ) زيادة في معنى الفعل . وقد قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=24ثم تولى إلى الظل في سورة القصص . ولعل قصد إفادة قوة توليه لما رأى عصاه تهتز هو الداعي لتأكيد فعل ( ولى ) بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=10مدبرا ولم يعقب فتأمل .
والإدبار : التوجه إلى جهة الخلف وهو ملازم للتولي فقوله ( مدبرا ) حال لازمة لفعل ( ولى ) .
والتعقب : الرجوع بعد الانصراف مشتق من العقب ; لأنه رجوع إلى جهة العقب ، أي : الخلف ، فقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=10ولم يعقب ) تأكيد لشدة توليه ، أي : ولى توليا قويا لا تردد فيه . وكان ذلك التولي منه لتغلب القوة الواهمة التي في جبلة الإنسان على قوة العقل الباعثة على التأمل فيما دل عليه قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=9أنا الله العزيز ) من الكناية عن إعطائه النبوءة والتأييد ، إذ كانت القوة الواهمة متأصلة في الجبلة سابقة على ما تلقاه من التعريض بالرسالة ، وتأصل القوة الواهمة يزول بالتخلق وبمحاربة العقل للوهم فلا يزالان يتدافعان ويضعف سلطان الوهم بتعاقب الأيام .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=10يا موسى لا تخف مقول قول محذوف ، أي : قلنا له . والنهي عن الخوف مستعمل في النهي عن استمرار الخوف ; لأن خوفه قد حصل . والخوف الحاصل
لموسى عليه السلام خوف رغب من
nindex.php?page=treesubj&link=31942انقلاب العصا حية وليس خوف ذنب ، فالمعنى : لا يجبن لدي المرسلون لأني أحفظهم .
و
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=10إني لا يخاف لدي المرسلون تعليل للنهي عن الخوف وتحقيق لما يتضمنه
[ ص: 229 ] نهيه عن الخوف من انتفاء موجبه . وهذا كناية عن تشريفه بمرتبة الرسالة إذ علل بأن
nindex.php?page=treesubj&link=31780_31788_19995المرسلين لا يخافون لدى الله تعالى .
ومعنى ( لدي ) في حضرتي ، أي : حين تلقي رسالتي . وحقيقة ( لدي ) مستحيلة على الله ; لأن حقيقتها المكان .
وإذا قد كان انقلاب العصا حية حصل حين الوحي كان تابعا لما سبقه من الوحي ، وهذا تعليم
لموسى عليه السلام التخلق بخلق المرسلين من رباطة الجأش . وليس في النهي حط لمرتبة
موسى عليه السلام عن مراتب غيره من المرسلين ، وإنما هو جار على طريقة : مثلك لا يبخل . والمراد النهي عن الخوف الذي حصل له من انقلاب العصا حية وعن كل خوف يخافه كما في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=77فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى .
والاستثناء في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=11إلا من ظلم ) ظاهره أنه متصل . ونسب
ابن عطية هذا إلى
مقاتل nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج فيكون
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=11من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء مستثنى من عموم الخوف الواقع فعله في حيز النفي فيعم الخوف بمعنى الرعب والخوف الذي هو خوف العقاب على الذنب ، أي : إلا رسولا ظلم ، أي : فرط منه ظلم ، أي : ذنب قبل اصطفائه للرسالة ، أي : صدر منه اعتداء بفعل ما لا يفعله مثله في متعارف شرائع البشر المتقرر أنها عدل ، بأن ارتكب ما يخالف المتقرر بين أهل الاستقامة أنه عدل ( قبل أن يكون الرسول متعبدا بشرع ) فهو يخاف أن يؤاخذه الله به ويجازيه على ارتكابه وذلك مثل كيد إخوة
يوسف لأخيهم ،
nindex.php?page=treesubj&link=31922_21377_28751واعتداء موسى على القبطي بالقتل دون معرفة المحق في تلك القضية ; فذلك الذي ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء ، أي : تاب عن فعله وأصلح حاله يغفر الله له .
والمقصود من هذا الاستثناء على هذا الوجه تسكين خاطر
موسى وتبشيره بأن الله غفر له ما كان فرط فيه ، وأنه قبل توبته مما قاله يوم الاعتداء
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=15هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=16قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ، فأفرغ هذا التطمين
لموسى في قالب العموم تعميما للفائدة .
واستقامة نظم الكلام بهذا المعنى يكون بتقدير كلام محذوف يدل عليه التفريع
[ ص: 230 ] في قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=11فإني غفور رحيم ) . فالتقدير : إلا من ظلم من قبل الإرسال وتاب من ظلمه فخاف عقابي فلا يخاف ; لأني غافر له ، وقابل لتوبته ; لأني غفور رحيم . وانتظم الكلام على إيجاز بديع اقتضاه مقام تعجيل المسرة ، ونسج على منسج التذكرة الرمزية لعلم المتخاطبين بذلك كأنه يقول : لم أهمل توبتك يوم اعتديت وقولك :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=15هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=16قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ، وعزمك على الاستقامة يوم قلت :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=17رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين .
ولذلك اقتصر في الاستثناء على خصوص من بدل حسنا بعد سوء إذ لا يتصور في الرسول الإصرار على الظلم .
ومن ألطف الإيماء الإتيان بفعل ( ظلم ) ، ليومئ إلى قول
موسى يوم ارتكب الاعتداء : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=44رب إني ظلمت نفسي ) ولذلك تعين أن يكون المقصود ب
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=11من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء موسى نفسه .
وقال
الفراء nindex.php?page=showalam&ids=14416والزجاج nindex.php?page=showalam&ids=14423والزمخشري وجرى عليه كلام
الضحاك : الاستثناء منقطع وحرف الاستثناء بمعنى الاستدراك ، فالكلام استطراد للتنبيه على أن من ظلم وبدل حسنا بعد سوء من الناس يغفر له . وعليه تكون ( من ) صادقة على شخص ظلم وليس المراد بها مخالفات بعض الرسل ، وهذا التأويل دعا إليه أن الرسالة تنافي سبق ظلم النفس . والذي حداهم إلى ذلك أن من مقتضى الاستثناء المتصل إثبات نقيض حكم المستثنى أنه مغفور له فلا خلاف عليه . ويفهم منه أنه لو ظلم ولم يبدل حسنا بعد سوء يخاف عذاب الآخرة .
أما
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري فزاد على ما سلكه
الفراء nindex.php?page=showalam&ids=14416والزجاج فجعل ماصدق ( من ظلم ) رسولا ظلم . والذي دعاه إلى اعتبار الاستثناء منقطعا هو أحد الداعيين اللذين دعيا
الفراء nindex.php?page=showalam&ids=14416والزجاج ، وهو أن الحكم المثبت للمستثنى ليس نقيضا لحكم المستثنى منه ولذلك جعل ماصدق ( من ظلم ) رسولا من الرسل ظلم بما فرط منه من صغائر ليشمل
موسى وهو واحد منهم .
وقد تحصل من الاحتمالين في معنى الاستثناء أن الرسل في حضرة الله ( أي : حين
[ ص: 231 ] القيام بواجبات الرسالة ) لا يخافون شيئا من المخلوقات ; لأن الله تعالى تكفل لهم السلامة ، ولا يخافون الذنوب ; لأن الله تكفل لهم العصمة . ولا يخافون عقابا على الذنوب ; لأنهم لا يقربونها ، وأن من عداهم إن ظلم نفسه ثم بدل حسنا بعد سوء أمن مما يخاف من عقاب الذنوب ; لأنه تدارك ظلمه بالتوبة ، وإن ظلم نفسه ولم يتب يخف عقاب الذنب ، فإن لم يظلم نفسه فلا خوف عليه . فهذه معان دل عليها الاستثناء باحتماليه ، وذلك إيجاز .
وفي تفسير
ابن عطية أن
أبا جعفر قرأ ( ألا من ظلم ) بفتح همزة ( ألا ) وتخفيف اللام فتكون حرف تنبيه ، ولا تعرف نسبة هذه القراءة
لأبي جعفر فيما رأينا من كتب علم القراءات فلعلها رواية ضعيفة عن
أبي جعفر .
وفعل ( بدل ) يقتضي شيئين : مأخوذا ، ومعطى ، فيتعدى الفعل إلى الشيئين تارة بنفسه كقوله تعالى في الفرقان (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=70فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ) ، ويتعدى تارة إلى المأخوذ بنفسه وإلى المعطى بالباء على تضمينه معنى عاوض كما قال تعالى (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=2ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ) ، أي : لا تأخذوا خبيث المال وتضيعوا طيبه ، فإذا ذكر المفعولان منصوبين تعين المأخوذ والمبذول بالقرينة وإلا فالمجرور بالباء هو المبذول ، وإن لم يذكر إلا مفعول واحد فهو المأخوذ كقول
امرئ القيس :
وبدلت قرحا داميا بعد صحة فيا لك من نعمى تبدلن أبؤسا
وكذلك قوله تعالى هنا :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=11ثم بدل حسنا بعد سوء أي : أخذ حسنا بسوء ، فإن كلمة ( بعد ) تدل على أن ما أضيفت إليه هو الذي كان ثابتا ثم زال وخلفه غيره وكذلك ما يفيد معنى ( بعد ) كقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=95ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة فالحالة الحسنة هي المأخوذة مجعولة في موضع الحالة السيئة .
[ ص: 226 ] nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=8nindex.php?page=treesubj&link=28998_31910فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=9يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=10وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=11إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ .
أُنِّثَ ضَمِيرُ ( جَاءَهَا ) جَرْيًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَسْمِيَةِ النُّورِ نَارًا بِحَسَبِ مَا لَاحَ
لِمُوسَى . وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي سُورَةِ طَهَ ، فَبِنَا أَنْ نَتَعَرَّضَ هُنَا لِمَا انْفَرَدَتْ بِهِ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ وَالتَّرَاكِيبِ ، فَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=8أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا هُوَ بَعْضُ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ فِي طَهَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=12فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى ; لِأَنَّ مَعْنَى ( بُورِكَ ) قُدِّسَ وَزُكِّيَ .
وَفِعْلُ ( بَارَكَ ) يُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا ، يُقَالُ : بَارَكَكَ اللَّهُ ، أَيْ : جَعَلَ لَكَ بَرَكَةً . وَتَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى الْبَرَكَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=96لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا فِي آلِ عِمْرَانَ ، وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=48وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ فِي سُورَةِ هُودٍ . وَ ( أَنْ ) تَفْسِيرِيَّةٌ لِفِعْلِ ( نُودِيَ ) ; لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْقَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ ، أَيْ : نُودِيَ بِهَذَا الْكَلَامِ .
وَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=8مَنْ فِي النَّارِ ) مُرَادٌ بِهِ
مُوسَى فَإِنَّهُ لَمَّا حَلَّ فِي مَوْضِعِ النُّورِ صَارَ مُحِيطًا بِهِ فَتِلْكَ الْإِحَاطَةُ تُشْبِهُ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=8مَنْ فِي النَّارِ ) وَهُوَ نَفْسُهُ .
وَالْعُدُولُ عَنْ ذِكْرِهِ بِضَمِيرِ الْخِطَابِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ ، أَوْ بِاسْمِهِ الْعَلَمِ إِنْ أُرِيدَ الْعُدُولُ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ ; لِأَنَّ فِي مَعْنَى صِلَةِ الْمَوْصُولِ إِينَاسًا لَهُ وَتَلَطُّفًا كَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِعَلِيٍّ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10342283قُمْ أَبَا تُرَابٍ وَكَثِيرٌ التَّلَطُّفُ بِذِكْرِ بَعْضِ مَا الْتَبَسَ بِهِ الْمُتَلَطَّفُ بِهِ مِنْ أَحْوَالِهِ . وَهَذَا الْكَلَامُ خَبَرٌ هُوَ بِشَارَةٌ
لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبَرَكَةِ النُّبُوءَةِ .
وَمَنْ حَوْلَ النَّارِ : هُوَ
جِبْرِيلُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِ بِمَا نُودِيَ بِهِ وَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ وُكِّلَ إِلَيْهِمْ إِنَارَةُ الْمَكَانِ وَتَقْدِيسِهِ إِنْ كَانَ النِّدَاءُ بِغَيْرِ وَاسِطَةِ
جِبْرِيلَ بَلْ كَانَ مِنْ لَدُنْ
[ ص: 227 ] اللَّهِ تَعَالَى . فَهَذَا التَّبْرِيكُ تَبْرِيكُ ذَوَاتٍ لَا تَبْرِيكَ مَكَانٍ بِدَلِيلِ ذِكْرِ ( مَنْ ) الْمَوْصُولَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ ، وَهُوَ تَبْرِيكُ الِاصْطِفَاءِ الْإِلَهِيِّ بِالْكَرَامَةِ . وَقِيلَ : إِنَّ قَوْلَهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=8أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ إِنْشَاءُ تَحِيَّةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا كَانَتْ تَحِيَّةُ الْمَلَائِكَةِ
لِإِبْرَاهِيمَ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=73رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ أَيْ : أَهْلُ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ .
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=8وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَطْفٌ عَلَى مَا نُودِيَ بِهِ
مُوسَى عَلَى صَرِيحِ مَعْنَاهُ إِخْبَارًا بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِإِلَهِيَّتِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُحْدَثَاتِ لِيَعْلَمَ
مُوسَى أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّدَاءَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالثَّانِي أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَمَّا عَسَى أَنْ يَخْطُرَ بِالْبَالِ أَنَّ جَلَالَتَهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ( سُبْحَانَ اللَّهِ ) مُسْتَعْمَلًا لِلتَّعْجِيبِ مِنْ ذَلِكَ الْمَشْهَدِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنَايَتِهِ يَقْتَضِي تَذَكُّرَ تَنْزِيهِهِ وَتَقْدِيسِهِ .
وَفِي حَذْفِ مُتَعَلَّقٍ التَّنْزِيهِ إِيذَانٌ بِالْعُمُومِ الْمُنَاسِبِ لِمَصْدَرِ التَّنْزِيهِ وَهُوَ عُمُومُ
nindex.php?page=treesubj&link=29625الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَلِيقُ إِثْبَاتُهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا يُعْلَمُ تَفْصِيلُهَا بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ .
فَالْمَعْنَى : وَنَزِّهِ اللَّهَ تَنْزِيهًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ ، وَمِنْ أَوَّلِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ تَنْزِيهُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ حَالًّا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ .
وَإِرْدَافُ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِوَصْفِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=8رَبِّ الْعَالَمِينَ ) فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِلتَّنْزِيهِ عَنْ شُئُونِ الْمُحْدَثَاتِ ; لِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَلَا يُشْبِهُ شَأْنُهُ تَعَالَى شُئُونَهُمْ .
وَضَمِيرُ ( إِنَّهُ ) ضَمِيرُ الشَّأْنِ ، وَجُمْلَةُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=9أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) خَبَرٌ عَنْ ضَمِيرِ الشَّأْنِ . وَالْمَعْنَى : إِعْلَامُهُ بِأَنَّ أَمْرًا مُهِمًّا يَجِبُ عِلْمُهُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، أَيْ : لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ ، لَا يَسْتَصْعِبُ عَلَيْهِ تَكْوِينٌ .
وَتَقْدِيمُ هَذَا بَيْنَ يَدَيْ مَا سَيُلْقَى إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ لِإِحْدَاثِ رِبَاطَةِ جَأْشٍ
لِمُوسَى لِيَعْلَمَ أَنَّهُ خُلِعَتْ عَلَيْهِ النُّبُوءَةُ ; إِذْ أُلْقِيَ إِلَيْهِ الْوَحْيُ ، وَيَعْلَمَ أَنَّهُ سَيَتَعَرَّضُ إِلَى أَذًى وَتَأَلُّبٍ عَلَيْهِ . وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ سَيَصِيرُ رَسُولًا ، وَأَنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُهُ وَيَنْصُرُهُ عَلَى كُلِّ قَوِيٍّ ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّ مَا شَاهَدَ مِنَ النَّارِ وَمَا تَلَقَّاهُ مِنَ الْوَحْيِ وَمَا سَيُشَاهِدُهُ مِنْ قَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً لَيْسَ بِعَجِيبٍ فِي جَانِبِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَتِلْكَ ثَلَاثُ كِنَايَاتٍ فَلِذَلِكَ
[ ص: 228 ] أَتْبَعَ هَذَا بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=10وَأَلْقِ عَصَاكَ . وَالْمَعْنَى : وَقُلْنَا : أَلْقِ عَصَاكَ .
وَالِاهْتِزَازُ : الِاضْطِرَابُ ، وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الْهَزِّ وَهُوَ الرَّفْعُ ، كَأَنَّهَا تُطَاوِعُ فِعْلَ هَازٍّ يَهُزُّهَا . وَالْجَانُّ : ذَكَرُ الْحَيَّاتِ ، وَهُوَ شَدِيدُ الِاهْتِزَازِ وَجَمْعُهُ جِنَّانٌ ( وَأَمَّا الْجَانُّ بِمَعْنَى وَاحِدِ الْجِنِّ فَاسْمُ جَمْعِهِ جِنٌّ ) . وَالتَّشْبِيهُ فِي سُرْعَةِ الِاضْطِرَابِ ; لِأَنَّ الْحَيَّاتِ خَفِيفَةُ التَّحَرُّكِ ، وَأَمَّا تَشْبِيهُ الْعَصَا بِالثُّعْبَانِ فِي آيَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=107فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ فَذَلِكَ لِضَخَامَةِ الْجِرْمِ .
وَالتَّوَلِّي : الرُّجُوعُ عَنِ السَّيْرِ فِي طَرِيقِهِ . وَفِعْلُ ( تَوَلَّى ) مُرَادِفُ فِعْلِ ( وَلَّى ) كَمَا هُوَ ظَاهِرُ صَنِيعِ الْقَامُوسِ وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى مَا فِي فِعْلِ ( تَوَلَّى ) مِنْ زِيَادَةِ الْمَبْنَى أَنْ يُفِيدَ ( تَوَلَّى ) زِيَادَةً فِي مَعْنَى الْفِعْلِ . وَقَدْ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=24ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ . وَلَعَلَّ قَصْدَ إِفَادَةِ قُوَّةِ تَوَلِّيهِ لَمَّا رَأَى عَصَاهُ تَهْتَزُّ هُوَ الدَّاعِي لِتَأْكِيدِ فِعْلِ ( وَلَّى ) بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=10مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ فَتَأَمَّلْ .
وَالْإِدْبَارُ : التَّوَجُّهُ إِلَى جِهَةِ الْخَلْفِ وَهُوَ مُلَازِمٌ لِلتَّوَلِّي فَقَوْلُهُ ( مُدْبِرًا ) حَالٌ لَازِمَةٌ لِفِعْلِ ( وَلَّى ) .
وَالتَّعَقُّبُ : الرُّجُوعُ بَعْدَ الِانْصِرَافِ مُشْتَقٌّ مِنَ الْعَقِبِ ; لِأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى جِهَةِ الْعَقِبِ ، أَيِ : الْخَلْفِ ، فَقَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=10وَلَمْ يُعَقِّبْ ) تَأْكِيدٌ لِشِدَّةِ تَوَلِّيهِ ، أَيْ : وَلَّى تَوَلِّيًا قَوِيًّا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ . وَكَانَ ذَلِكَ التَّوَلِّي مِنْهُ لِتَغَلُّبِ الْقُوَّةِ الْوَاهِمَةِ الَّتِي فِي جِبِلَّةِ الْإِنْسَانِ عَلَى قُوَّةِ الْعَقْلِ الْبَاعِثَةِ عَلَى التَّأَمُّلِ فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=9أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ ) مِنَ الْكِنَايَةِ عَنْ إِعْطَائِهِ النُّبُوءَةَ وَالتَّأْيِيدَ ، إِذْ كَانَتِ الْقُوَّةُ الْوَاهِمَةُ مُتَأَصِّلَةً فِي الْجِبِلَّةِ سَابِقَةً عَلَى مَا تَلَقَّاهُ مِنَ التَّعْرِيضِ بِالرِّسَالَةِ ، وَتَأَصُّلُ الْقُوَّةِ الْوَاهِمَةِ يَزُولُ بِالتَّخَلُّقِ وَبِمُحَارَبَةِ الْعَقْلِ لِلْوَهْمِ فَلَا يَزَالَانِ يَتَدَافَعَانِ وَيَضْعُفُ سُلْطَانُ الْوَهْمِ بِتَعَاقُبِ الْأَيَّامِ .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=10يَا مُوسَى لَا تَخَفْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ ، أَيْ : قُلْنَا لَهُ . وَالنَّهْيُ عَنِ الْخَوْفِ مُسْتَعْمَلٌ فِي النَّهْيِ عَنِ اسْتِمْرَارِ الْخَوْفِ ; لِأَنَّ خَوْفَهُ قَدْ حَصَلَ . وَالْخَوْفُ الْحَاصِلُ
لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ خَوْفُ رَغَبٍ مِنِ
nindex.php?page=treesubj&link=31942انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً وَلَيْسَ خَوْفَ ذَنْبٍ ، فَالْمَعْنَى : لَا يَجْبُنُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ لِأَنِّي أَحْفَظُهُمْ .
وَ
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=10إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْخَوْفِ وَتَحْقِيقٌ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ
[ ص: 229 ] نَهْيُهُ عَنِ الْخَوْفِ مِنَ انْتِفَاءِ مُوجِبِهِ . وَهَذَا كِنَايَةٌ عَنْ تَشْرِيفِهِ بِمَرْتَبَةِ الرِّسَالَةِ إِذْ عُلِّلَ بِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31780_31788_19995الْمُرْسَلِينَ لَا يَخَافُونَ لَدَى اللَّهِ تَعَالَى .
وَمَعْنَى ( لَدَيَّ ) فِي حَضْرَتِي ، أَيْ : حِينَ تَلَقِّي رِسَالَتِي . وَحَقِيقَةُ ( لَدَيَّ ) مُسْتَحِيلَةٌ عَلَى اللَّهِ ; لِأَنَّ حَقِيقَتَهَا الْمَكَانُ .
وَإِذَا قَدْ كَانَ انْقِلَابُ الْعَصَا حَيَّةً حَصَلَ حِينَ الْوَحْيُ كَانَ تَابِعًا لِمَا سَبَقَهُ مِنَ الْوَحْيِ ، وَهَذَا تَعْلِيمٌ
لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّخَلُّقَ بِخُلُقِ الْمُرْسَلِينَ مِنْ رَبَاطَةِ الْجَأْشِ . وَلَيْسَ فِي النَّهْيِ حَطٌّ لِمَرْتَبَةِ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ مَرَاتِبِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ، وَإِنَّمَا هُوَ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ : مِثْلُكَ لَا يَبْخَلُ . وَالْمُرَادُ النَّهْيُ عَنِ الْخَوْفِ الَّذِي حَصَلَ لَهُ مِنَ انْقِلَابِ الْعَصَا حَيَّةً وَعَنْ كُلِّ خَوْفٍ يَخَافُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=77فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى .
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=11إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ . وَنَسَبَ
ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا إِلَى
مُقَاتِلٍ nindex.php?page=showalam&ids=13036وَابْنِ جُرَيْجٍ فَيَكُونُ
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=11مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ الْخَوْفِ الْوَاقِعِ فِعْلُهُ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ فَيَعُمُّ الْخَوْفَ بِمَعْنَى الرُّعْبِ وَالْخَوْفَ الَّذِي هُوَ خَوْفُ الْعِقَابِ عَلَى الذَّنْبِ ، أَيْ : إِلَّا رَسُولًا ظَلَمَ ، أَيْ : فَرَطَ مِنْهُ ظُلْمٌ ، أَيْ : ذَنْبٌ قَبْلَ اصْطِفَائِهِ لِلرِّسَالَةِ ، أَيْ : صَدَرَ مِنْهُ اعْتِدَاءٌ بِفِعْلِ مَا لَا يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ فِي مُتَعَارَفِ شَرَائِعِ الْبَشَرِ الْمُتَقَرَّرِ أَنَّهَا عَدْلٌ ، بِأَنِ ارْتَكَبَ مَا يُخَالِفُ الْمُتَقَرَّرَ بَيْنَ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ أَنَّهُ عَدْلٌ ( قَبْلَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مُتَعَبَّدًا بِشَرْعٍ ) فَهُوَ يَخَافُ أَنْ يُؤَاخِذَهُ اللَّهُ بِهِ وَيُجَازِيَهُ عَلَى ارْتِكَابِهِ وَذَلِكَ مِثْلُ كَيْدِ إِخْوَةِ
يُوسُفَ لِأَخِيهِمْ ،
nindex.php?page=treesubj&link=31922_21377_28751وَاعْتِدَاءِ مُوسَى عَلَى الْقِبْطِيِّ بِالْقَتْلِ دُونَ مَعْرِفَةِ الْمُحِقِّ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ ; فَذَلِكَ الَّذِي ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ ، أَيْ : تَابَ عَنْ فِعْلِهِ وَأَصْلَحَ حَالَهُ يَغْفِرُ اللَّهُ لَهُ .
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَسْكِينُ خَاطِرِ
مُوسَى وَتَبْشِيرُهُ بِأَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ مَا كَانَ فَرَطَ فِيهِ ، وَأَنَّهُ قَبِلَ تَوْبَتَهُ مِمَّا قَالَهُ يَوْمَ الِاعْتِدَاءِ
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=15هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=16قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ، فَأُفْرِغَ هَذَا التَّطْمِينُ
لِمُوسَى فِي قَالَبِ الْعُمُومِ تَعْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ .
وَاسْتِقَامَةُ نَظْمِ الْكَلَامِ بِهَذَا الْمَعْنَى يَكُونُ بِتَقْدِيرِ كَلَامٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ التَّفْرِيعُ
[ ص: 230 ] فِي قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=11فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) . فَالتَّقْدِيرُ : إِلَّا مَنْ ظَلَمَ مِنْ قَبْلِ الْإِرْسَالِ وَتَابَ مَنْ ظُلْمِهِ فَخَافَ عِقَابِي فَلَا يَخَافُ ; لِأَنِّي غَافِرٌ لَهُ ، وَقَابِلٌ لِتَوْبَتِهِ ; لِأَنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ . وَانْتَظَمَ الْكَلَامُ عَلَى إِيجَازٍ بَدِيعٍ اقْتَضَاهُ مَقَامُ تَعْجِيلِ الْمَسَرَّةِ ، وَنُسِجَ عَلَى مَنْسَجِ التَّذْكِرَةِ الرَّمْزِيَّةِ لِعِلْمِ الْمُتَخَاطَبِينَ بِذَلِكَ كَأَنَّهُ يَقُولُ : لَمْ أُهْمِلْ تَوْبَتَكَ يَوْمَ اعْتَدَيْتَ وَقَوْلَكَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=15هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=16قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ، وَعَزْمَكَ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ يَوْمَ قُلْتَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=28&ayano=17رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ .
وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى خُصُوصِ مَنْ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ إِذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الرَّسُولِ الْإِصْرَارُ عَلَى الظُّلْمِ .
وَمِنْ أَلْطَفِ الْإِيمَاءِ الْإِتْيَانُ بِفِعْلِ ( ظَلَمَ ) ، لِيُومِئَ إِلَى قَوْلِ
مُوسَى يَوْمَ ارْتَكَبَ الِاعْتِدَاءَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=44رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ) وَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ بِ
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=11مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ مُوسَى نَفْسَهُ .
وَقَالَ
الْفَرَّاءُ nindex.php?page=showalam&ids=14416وَالزَّجَّاجُ nindex.php?page=showalam&ids=14423وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَجَرَى عَلَيْهِ كَلَامُ
الضَّحَّاكِ : الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ وَحَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ ، فَالْكَلَامُ اسْتِطْرَادٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مَنْ ظَلَمَ وَبَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ مِنَ النَّاسِ يُغْفَرُ لَهُ . وَعَلَيْهِ تَكُونُ ( مَنْ ) صَادِقَةً عَلَى شَخْصٍ ظَلَمَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا مُخَالَفَاتِ بَعْضِ الرُّسُلِ ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ دَعَا إِلَيْهِ أَنَّ الرِّسَالَةَ تُنَافِي سَبْقَ ظُلْمِ النَّفْسِ . وَالَّذِي حَدَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ مِنْ مُقْتَضَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ إِثْبَاتَ نَقِيضِ حُكْمِ الْمُسْتَثْنَى أَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ فَلَا خِلَافَ عَلَيْهِ . وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ ظَلَمَ وَلَمْ يُبَدِّلْ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ يَخَافُ عَذَابَ الْآخِرَةِ .
أَمَّا
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ فَزَادَ عَلَى مَا سَلَكَهُ
الْفَرَّاءُ nindex.php?page=showalam&ids=14416وَالزَّجَّاجُ فَجَعَلَ مَاصَدَقَ ( مَنْ ظَلَمَ ) رَسُولًا ظَلَمَ . وَالَّذِي دَعَاهُ إِلَى اعْتِبَارِ الِاسْتِثْنَاءِ مُنْقَطِعًا هُوَ أَحَدُ الدَّاعِيَيْنِ اللَّذَيْنِ دَعَيَا
الْفَرَّاءَ nindex.php?page=showalam&ids=14416وَالزَّجَّاجَ ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ الْمُثْبَتَ لِلْمُسْتَثْنَى لَيْسَ نَقِيضًا لِحُكْمِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَلِذَلِكَ جَعَلَ مَاصَدَقَ ( مَنْ ظَلَمَ ) رَسُولًا مِنَ الرُّسُلِ ظَلَمَ بِمَا فَرَطَ مِنْهُ مِنْ صَغَائِرَ لِيَشْمَلَ
مُوسَى وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ .
وَقَدْ تَحَصَّلَ مِنَ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ الرُّسُلَ فِي حَضْرَةِ اللَّهِ ( أَيْ : حِينَ
[ ص: 231 ] الْقِيَامِ بِوَاجِبَاتِ الرِّسَالَةِ ) لَا يَخَافُونَ شَيْئًا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَكَفَّلَ لَهُمُ السَّلَامَةَ ، وَلَا يَخَافُونَ الذُّنُوبَ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ لَهُمُ الْعِصْمَةَ . وَلَا يَخَافُونَ عِقَابًا عَلَى الذُّنُوبِ ; لِأَنَّهُمْ لَا يَقْرَبُونَهَا ، وَأَنَّ مَنْ عَدَاهُمْ إِنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ أَمِنَ مِمَّا يَخَافُ مِنْ عِقَابِ الذُّنُوبِ ; لِأَنَّهُ تَدَارَكَ ظُلْمَهُ بِالتَّوْبَةِ ، وَإِنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَمْ يَتُبْ يَخَفْ عِقَابَ الذَّنْبِ ، فَإِنْ لَمْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ فَلَا خَوْفَ عَلَيْهِ . فَهَذِهِ مَعَانٍ دَلَّ عَلَيْهَا الِاسْتِثْنَاءُ بِاحْتِمَالَيْهِ ، وَذَلِكَ إِيجَازٌ .
وَفِي تَفْسِيرِ
ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ
أَبَا جَعْفَرٍ قَرَأَ ( أَلَا مَنْ ظَلَمَ ) بِفَتْحِ هَمْزَةِ ( أَلَا ) وَتَخْفِيفِ اللَّامِ فَتَكُونُ حَرْفَ تَنْبِيهٍ ، وَلَا تُعْرَفُ نِسْبَةُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ
لِأَبِي جَعْفَرٍ فِيمَا رَأَيْنَا مِنْ كُتُبِ عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ فَلَعَلَّهَا رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ
أَبِي جَعْفَرٍ .
وَفِعْلُ ( بَدَّلَ ) يَقْتَضِي شَيْئَيْنِ : مَأْخُوذًا ، وَمُعْطًى ، فَيَتَعَدَّى الْفِعْلُ إِلَى الشَّيْئَيْنِ تَارَةً بِنَفْسِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْفُرْقَانِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=25&ayano=70فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ) ، وَيَتَعَدَّى تَارَةً إِلَى الْمَأْخُوذِ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْمُعْطَى بِالْبَاءِ عَلَى تَضْمِينِهِ مَعْنَى عَاوَضَ كَمَا قَالَ تَعَالَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=2وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ ) ، أَيْ : لَا تَأْخُذُوا خَبِيثَ الْمَالِ وَتُضَيِّعُوا طَيِّبَهُ ، فَإِذَا ذُكِرَ الْمَفْعُولَانِ مَنْصُوبَيْنِ تَعَيَّنَ الْمَأْخُوذُ وَالْمَبْذُولُ بِالْقَرِينَةِ وَإِلَّا فَالْمَجْرُورُ بِالْبَاءِ هُوَ الْمَبْذُولُ ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ إِلَّا مَفْعُولٌ وَاحِدٌ فَهُوَ الْمَأْخُوذُ كَقَوْلِ
امْرِئِ الْقَيْسِ :
وَبُدِّلْتُ قَرْحًا دَامِيًا بَعْدَ صِحَّةٍ فَيَا لَكِ مِنْ نُعْمَى تَبَدَّلْنَ أَبْؤُسًا
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا :
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=11ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ أَيْ : أَخَذَ حُسْنًا بِسُوءٍ ، فَإِنَّ كَلِمَةَ ( بَعْدَ ) تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا ثُمَّ زَالَ وَخَلَفَهُ غَيْرُهُ وَكَذَلِكَ مَا يُفِيدُ مَعْنَى ( بَعْدَ ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=95ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ فَالْحَالَةُ الْحَسَنَةُ هِيَ الْمَأْخُوذَةُ مَجْعُولَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالَةِ السَّيِّئَةِ .