يتعين أن ما موصولة وهو معطوف على قوله ملك سليمان أي وما تتلو الشياطين على ما أنزل على الملكين ، والمراد بما أنزل ضرب من السحر لكنه سحر يشتمل على كفر عظيم وتعليم الخضوع لغير الله مع الاستخفاف بالدين ومع الإضرار بالناس ، كما بيناه آنفا ، فيكون عطفا على " ما تتلو " الذي هو صادق على السحر فعطف " ما أنزل " عليه ؛ لأنه نوع منه أشد مما تتلوه الشياطين الذين كانوا يعلمونه الناس مع السحر الموضوع منهم ، فالعطف لتغاير الاعتبار أو للتنبيه على أن أصل السحر مقتبس مما ظهر ببابل في زمن هذين المعلمين ، وعطف شيء على نفسه باعتبار تغاير المفهوم والاعتبار وارد في كلامهم ، كقول الشاعر ( وهو من شواهد النحو ) :
إلى الملك القرم وابن الهما م وليث الكتيبة في المزدحم
وقيل أريد من السحر أخف مما وضعته الشياطين على عهد سليمان لأن غاية ما وصف به هذا الذي ظهر ببابل في زمن هذين المعلمين أنه يفرق بين المرء وزوجه ، وذلك ليس بكفر وفيه ضعف .والقراءة المتواترة " الملكين " بفتح لام الملكين وقرأه ابن عباس والضحاك والحسن وابن أبزى بكسر اللام .
وكل هاته الوجوه تقتضي ثبوت نزول شيء على الملكين ببابل وذلك هو الذي يعنيه سياق الآية إذا فصلت كيفية تعليم هذين المعلمين علم السحر .
فالوجه أن قوله " وما أنزل " عطف على " ملك سليمان " فهو معمول لتتلو الذي هو بمعنى تكذب فيكون المراد عدم صحة هذا الخبر ، أي ما تكذبه الشياطين على ما أنزل على الملكين ببابل ، أي ينسبون بعض السحر إلى ما أنزل ببابل . قال الفخر وهو اختيار أبي [ ص: 640 ] مسلم 55 ، وأنكر أبو مسلم أن يكون السحر نازلا على الملكين إذ لا يجوز أمر الله به ، وكيف يتولى الملائكة تعليمه مع أنه كفر أو فسق ، وقيل ما نافية معطوفة على ( ما كفر سليمان ) أي وما كفر سليمان بوضع السحر كما يزعم الذين وضعوه ، ولا أنزل السحر على الملكين ببابل .
وتعريف الملكين تعريف الجنس ، أو هو تعريف العهد بأن يكون الملكان معهودين لدى العارفين بقصة ، وقد قيل : إن ظهور السحر هاروت وماروت بدل من الشياطين وأن المراد بالشياطين شيطانان وضعا السحر للناس هما هاروت وماروت على أنه من إطلاق الجمع على المثنى كقوله " قلوبكما " وهذا تأويل خطأ إذ يصير قوله " على الملكين " كلاما حشوا .
وعلى ظاهر هذه الآية إشكال من أربعة وجوه : أحدها : كون السحر منزلا إن حمل الإنزال على المعروف منه وهو الإنزال من الله ، الثاني : كون المباشر لذلك ملكين من الملائكة على القراءة المتواترة ، الثالث : كيف يجمع الملكان بين قولهما ( نحن فتنة ) وقولهما ( فلا تكفر ) فكيف يجتمع قصد الفتنة مع التحذير من الوقوع فيها . الرابع : كيف حصرا حالهما في الاتصاف بأنهما فتنة ، فما هي الحكمة في تصديهما لذلك ؟ لأنهما إن كانا ملكين فالإشكال ظاهر ، وإن كانا ملكين بكسر اللام فهما قد علما مضرة الكفر بدليل نهيهما عنه ، وعلما معنى الفتنة بدليل قولهما ( إنما نحن فتنة ) فلماذا تورطا في هذه الحالة ؟
ودفع هذا الإشكال برمته أن الإنزال هو الإيصال وهو إذا تعدى بعلى دل على إيصال من علو ، واشتهر ذلك في إيصال العلم من وحي أو إلهام أو نحوهما ، فالإنزال هنا بمعنى الإلهام وبمعنى الإيداع في العقل ، أو في الخلقة بأن يكون الملكان قد برعا في هذا السحر وابتكرا منه أساليب لم يسبق لهما تلقيها من معلم شأن العلامة المتصرف في علمه المبتكر لوجوه المسائل وعللها وتصاريفها وفروعها ، والظاهر عندي أن ليس المراد بالإنزال إنزال السحر ، إذ السحر أمر موجود من قبل ولكنه إنزال الأمر للملكين أو إنزال الوحي أو الإلهام للملكين ، بأن يتصديا لبث خفايا السحر بين المتعلمين ليبطل انفراد شرذمة بعلمه فيندفع الوجهان الأول والثاني . ثم إن الحكمة من تعميم تعليمه أن بابل كانوا اتخذوا السحر وسيلة لتسخير العامة لهم في أبدانهم وعقولهم وأموالهم ، ثم تطلعوا منه إلى تأسيس عبادة الأصنام والكواكب وزعموا أنهم - أي السحرة - مترجمون عنهم وناطقون بإرادة الآلهة فحدث فساد عظيم ، وعمت الضلالة ، فأراد الله على معتاد حكمته إنقاذ الخلق من ذلك فأرسل [ ص: 641 ] أو أوحى أو ألهم السحرة في هاروت وماروت أن يكشفا دقائق هذا الفن للناس حتى يشترك الناس كلهم في ذلك فيعلموا أن السحرة ليسوا على ذلك ويرجع الناس إلى صلاح الحال ، فاندفع الوجه الثالث . وأما الوجه الرابع فستعرف دفعه عند تفسير قوله وما يعلمان من أحد الآية . وفي قراءة ابن عباس والحسن ( الملكين ) بكسر اللام وهي قراءة صحيحة المعنى ، فمعنى ذلك أن ملكين كانا يملكان ببابل قد علما علم السحر . وعلى قراءة فتح اللام فالأظهر في تأويله أنه استعارة ، وأنهما رجلان صالحان كان حكما مدينة بابل وكانا قد اطلعا على أسرار السحر التي كانت تأتيها السحرة ببابل أو هما وضعا أصله ولم يكن فيه كفر ، فأدخل عليه الناس الكفر بعد ذلك . وقيل هما ملكان أنزلهما الله تعالى تشكلا للناس يعلمانهم السحر لكشف أسرار السحرة لأن السحرة كانوا يزعمون أنهم آلهة أو رسل ، فكانوا يسخرون العامة لهم ، فأراد الله تكذيبهم ذبا عن مقام النبوءة فأنزل ملكين لذلك .
وقد أجيب بأن هاروت وماروت جائز على جهة الابتلاء من الله لخلقه ، فالطائع لا يتعلمه والعاصي يبادر إليه وهو فاسد لمنافاته عموم قوله " يعلمون الناس " قالوا : كما امتحن الله تعلم السحر في زمن قوم طالوت بالنهر إلخ ولا يخفى فساد التنظير .
وبابل بلد قديم من مدن العالم وأصل الاسم باللغة الكلدانية باب إيلو أي باب الله ويرادفه بالعبرانية باب إيل وهو بلد كائن على ضفتي الفرات بحيث يخترقه الفرات يقرب موضعه من موقع بلد الحلة الآن على بعد أميال من ملتقى الفرات والدجلة .
كانت من أعظم مدن العالم القديم بناها أولا أبناء نوح بعد الطوفان فيما يقال ثم توالى عليها اعتناء أصحاب الحضارة بمواطن العراق في زمن الملك النمروذ في الجيل الثالث من أبناء نوح ولكن ابتداء عظمة بابل كان في حدود سنة 3755 ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وخمسين قبل المسيح فكانت إحدى عواصم أربعة لمملكة الكلدانيين وهي أعظمها وأشهرها ولم تزل همم ملوك الدولتين الكلدانية والأشورية منصرفة إلى تعمير هذا البلد وتنميقه فكان بلد العجائب من الأبنية والبساتين ومنبع المعارف الأسيوية والعجائب السحرية وقد نسبوا إليها قديما الخمر المعتقة والسحر قال أبو الطيب :
[ ص: 642 ]
سقى الله أيام الصبا ما يسرها ويفعل فعل البابلي المعتق
و هاروت وماروت بدل من الملكين وهما اسمان كلدانيان دخلهما تغيير التعريف لإجرائهما على خفة الأوزان العربية ، والظاهر أن هاروت معرب ( هاروكا ) وهو اسم القمر عند الكلدانيين وأن ماروت معرب ( ما روداخ ) وهو اسم المشتري عندهم وكانوا يعدون الكواكب السيارة من المعبودات المقدسة التي هي دون الآلهة لا سيما القمر فإنه أشد الكواكب تأثيرا عندهم في هذا العالم وهو رمز الأنثى ، وكذلك المشتري فهو أشرف الكواكب السبعة عندهم ولعله كان رمز الذكر عندهم كما كان بعل عند الكنعانيين الفنيقيين .
ومن المعلوم أن إسناد هذا التقديس للكواكب ناشئ عن اعتقادهم أنهم كانوا من الصالحين المقدسين وأنهم بعد موتهم رفعوا للسماء في صورة الكواكب ، فيكون ( هاروكا و ماروداخ ) قد كانا من قدماء علمائهم وصالحيهم والحاكمين في البلاد وهما اللذان وضعا السحر ولعل هذا وجه التعبير عنهما في القصة بالملكين بفتح اللام ، ولأهل القصص هنا قصة خرافية من موضوعات اليهود في خرافاتهم الحديثة اعتاد بعض المفسرين ذكرها منهم ابن عطية والبيضاوي وأشار المحققون مثل البيضاوي والفخر وابن كثير والقرطبي إلى كذبها وأنها من مرويات وابن عرفة وقد وهم فيها بعض المتساهلين في الحديث فنسبوا روايتها عن النبيء - صلى الله عليه وسلم - أو عن بعض الصحابة بأسانيد واهية والعجب للإمام كعب الأحبار رحمه الله تعالى كيف أخرجها مسندة للنبيء - صلى الله عليه وسلم - ولعلها مدسوسة على أحمد بن حنبل أو أنه غره فيها ظاهر حال رواتها ، مع أن فيهم الإمام أحمد موسى بن جبير وهو متكلم فيه ، واعتذر عبد الحكيم بأن الرواية صحيحة إلا أن المروي راجع إلى أخبار اليهود فهو باطل [ ص: 643 ] في نفسه ورواته صادقون فيما رووا وهذا عذر قبيح لأن الرواية أسندت إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - قال في تفسيره وقد كان الشيوخ يخطئون ابن عرفة ابن عطية في هذا الموضع لأجل ذكره القصة ، ونقل بعضهم عن القرافي أن مالكا رحمه الله أنكر ذلك في حق هاروت وماروت .
وقوله وما يعلمان من أحد جملة حالية من هاروت وماروت ، وما نافية ، والتعبير بالمضارع لحكاية الحال إشارة إلى أن قولهما لمتعلمي السحر إنما نحن فتنة قول مقارن لوقت التعليم لا متأخر عنه . وقد علم من هذا أنهما كانا معلمين وطوى ذلك للاستغناء عنه بمضمون هاته الجملة ، فهو من إيجاز الحذف أو هو من لحن الخطاب مفهوم للغاية .
إنما نحن فتنة " الفتنة لفظ يجمع معنى مرج واضطراب أحوال أحد وتشتت باله بالخوف والخطر على الأنفس والأموال على غير عدل ولا نظام ، وقد تخصص وتعمم بحسب ما تضاف إليه أو بحسب المقام ، يقال فتنة المال وفتنة الدين . وقوله "
ولما كانت هذه الحالة يختلف ثبات الناس فيها بحسب اختلاف رجاحة عقولهم وصبرهم ومقدرتهم على حسن المخارج منها ، كان من لوازمها الابتلاء والاختبار فكان ذلك من المعاني التي يكنى بالفتنة عنها كثيرا ، ولذلك تسامح بعض علماء اللغة ففسر الفتنة بالابتلاء وجرأه على ذلك قول الناس فتنت الذهب أو الفضة إذا أذابهما بالنار لتمييز الرديء من الجيد ، وهذا الإطلاق إن لم يكن مولدا فإن معنى الاختبار غير منظور إليه في لفظ الفتنة ، وإنما المنظور إليه ما في الإذابة من الاضطراب والمرج وقد سمى القرآن هاروت وماروت فتنة وقال إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات وقال لا يفتننكم الشيطان والإخبار عن أنفسهم بأنهم فتنة إخبار بالمصدر للمبالغة ، وقد أكدت المبالغة بالحصر الإضافي ، والمقصد من ذلك أنهما كانا يصرحان أن ليس في علمهما شيء من الخير الإلهي ، وأنه فتنة محضة ، ابتلاء من الله لعباده في مقدار تمسكهم بدينهم ، وإنما كانا فتنة لأن كل من تعلم منهما عمل به . فلا تكفر كما كفر السحرة حين نسبوا التأثيرات للآلهة وقد علمت سرها . وفي هذا ما يضعف أن يكون المقصد من تعليمهما الناس السحر إظهار كذب السحرة الذين نسبوا أنفسهم للألوهية أو النبوءة .
والذي يظهر في تفسير هذه الجملة أن قولهما " إنما نحن فتنة " قصر ادعائي للمبالغة ، فجعلا كثرة افتتان الناس بالسحر الذي تصديا لتعليمه بمنزلة انحصار أوصافهما في الفتنة ، ووجه [ ص: 644 ] ابتدائهما لمن يعلمانه بهذه الجملة أن يبينا له أن هذا العلم في مبادئه يظهر كأنه فتنة وشر فيوشك أن يكفر متعلمه عند مفاجأة تلك التعاليم إياه إذا كانت نفسه قد توطنت على اعتقاد أن ظهور خوارق العادات علامة على ألوهية من يظهرها ، وقولهما " فلا تكفر " أي لا تعجل باعتقاد ذلك فينا فإنك إذا توغلت في معارف السحر علمت أنها معلولة لعلل من خصائص النفوس أو خصائص الأشياء ، فالفتنة تحصل لمن يتعلم السحر حين يرى ظواهره وعجائبه على أيدي السحرة ولمن كان في مبدأ التعليم ، فإذا تحقق في علمه اندفعت الفتنة فذلك معنى قولهما " فلا تكفر " بمنزلة فلا تفتتن وقد اندفع الإشكال الرابع المتقدم .