استئناف ابتدائي لزيادة إثارة غيظ المسلمين على أهل الكتاب ، بكشف ما يضمرونه للإسلام من الممالاة ، والتألب على مناواة الدين ، حين تحققوا أنه في انتشار وظهور فثار حسدهم وخشوا ظهور فضله على دينهم ، فالضمير في قوله : يريدون عائد إلى الذين أوتوا الكتاب والإطفاء إبطال الإسراج وإزالة النور بنفخ عليه ، أو هبوب رياح ، أو إراقة مياه على الشيء المستنير من سراج أو جمر .
والنور الضوء وقد تقدم عند قوله - تعالى : نورا وهدى للناس في سورة الأنعام . والكلام تمثيل لحالهم في محاولة تكذيب النبيء - صلى الله عليه وسلم ، وصد الناس عن اتباع الإسلام ، وإعانة المناوئين للإسلام بالقول والإرجاف ، والتحريض على المقاومة . والانضمام إلى صفوف الأعداء في الحروب ، ومحاولة نصارى الشام الهجوم على المدينة بحال من يحاول إطفاء نور بنفخ فمه عليه ، فهذا الكلام مركب مستعمل في غير ما وضع له على طريقة تشبيه الهيئة بالهيئة ، ومن كمال بلاغته أنه صالح لتفكيك التشبيه بأن يشبه الإسلام وحده بالنور ، ويشبه محاولو إبطاله بمريدي إطفاء النور ويشبه الإرجاف والتكذيب بالنفخ ، ومن الرشاقة أن آلة النفخ وآلة التكذيب واحدة وهي الأفواه . والمثال المشهور للتمثيل الصالح لاعتباري التركيب والتفريق قول بشار :
كأن مثار النقع فوق رءوسنا وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
ولكن التفريق في تمثيلية الآية أشد استقلالا ، بخلاف بيت بشار ، كما يظهر بالتأمل .
[ ص: 172 ] وإضافة النور إلى اسم الجلالة إشارة إلى أن محاولة إطفائه عبث وأن أصحاب تلك المحاولة لا يبلغون مرادهم .
والإباء والإباية : الامتناع من الفعل ، وهو هنا تمثيل لإرادة الله - تعالى - إتمام ظهور الإسلام بحال من يحاوله محاول على فعل وهو يمتنع منه ; لأنهم لما حاولوا طمس الإسلام كانوا في نفس الأمر محاولين إبطال مراد الله تعالى ، فكان حالهم ، في نفس الأمر ، كحال من يحاول من غيره فعلا وهو يأبى أن يفعله .
والاستثناء مفرغ وإن لم يسبقه نفي لأنه أجري فعل يأبى مجرى نفي الإرادة ، كأنه قال : ولا يريد الله إلا أن يتم نوره ، ذلك أن فعل أبى ونحوه فيه جانب نفي لأن إباية شيء جحد له ، فقوي جانب النفي هنا لوقوعه في مقابلة قوله : يريدون أن يطفئوا نور الله . فكان إباء ما يريدونه في معنى نفي إرادة الله ما أرادوه . وبذلك يظهر الفرق بين هذه الآية وبين أن يقول قائل " كرهت إلا أخاك " .
وجيء بهذا التركيب هنا لشدة مماحكة أهل الكتاب وتصلبهم في دينهم ، ولم يجأ به في سورة الصف إذ قال يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره لأن المنافقين كانوا يكيدون للمسلمين خفية وفي لين وتملق .
وذكر صاحب الكشاف عند قوله - تعالى : فشربوا منه إلا قليل منهم في قراءة الأعمش وأبي برفع ( قليل ) في سورة البقرة : أن ارتفاع المستثنى على البدلية من ضمير فشربوا على اعتبار تضمين ( شربوا ) معنى ، فلم يطعموه إلا قليل ، ميلا مع معنى الكلام .
والإتمام مؤذن بالريادة والانتشار ولذلك لم يقل : ويأبى الله إلا أن يبقي نوره .
و ( لو ) في ( ولو كره الكافرون ) اتصالية ، وهي تفيد المبالغة بأن ما بعدها أجدر بانتفاء ما قبلها لو كان منتفيا . والمبالغة بكراهية الكافرين ترجع إلى المبالغة بآثار تلك الكراهية ، وهي التألب والتظاهر على مقاومة الدين وإبطاله . وأما مجرد كراهيتهم فلا قيمة لها عند الله - تعالى - حتى يبالغ بها ، والكافرون هم اليهود والنصارى .