ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله
عطف على جملة ولا يدينون دين الحق والتقدير : ويقول اليهود منهم عزير ابن الله ، ويقول النصارى منهم المسيح ابن الله ، تشنيعا على قائليهما من أهل الكتاب بأنهم بلغوا في الكفر غايته حتى ساووا المشركين .
وعزير : اسم حبر كبير من أحبار اليهود الذين كانوا في الأسر البابلي ، واسمه في العبرانية ( عزرا ) بكسر العين المهملة بن ( سرايا ) من سبط اللاويين ، كان [ ص: 168 ] حافظا للتوراة . وقد تفضل عليه ( كورش ) ملك فارس فأطلقه من الأسر ، وأطلق معه بني إسرائيل من الأسر الذي كان عليهم في بابل ، وأذنهم بالرجوع إلى أورشليم وبناء هيكلهم فيه ، وذلك في سنة 451 قبل المسيح ، فكان عزرا زعيم أحبار اليهود الذين رجعوا بقومهم إلى أورشليم وجددوا الهيكل وأعاد شريعة التوراة من حفظه ، فكان اليهود يعظمون عزرا إلى حد أن ادعى عامتهم أن عزرا ابن الله ، غلوا منهم في تقديسه ، والذين وصفوه بذلك جماعة من أحبار اليهود في المدينة ، وتبعهم كثير من عامتهم . وأحسب أن الداعي لهم إلى هذا القول أن لا يكونوا أخلياء من نسبة أحد عظمائهم إلى بنوة الله - تعالى - مثل قول النصارى في المسيح كما قال متقدموهم اجعل لنا إلها كما لهم آلهة
قال بهذا القول فرقة من اليهود فألصق القول بهم جميعا لأن سكوت الباقين عليه وعدم تغييره يلزمهم الموافقة عليه والرضا به ، وقد ذكر اسم عزرا في الآية بصيغة التصغير ، فيحتمل أنه لما عرب عرب بصيغة تشبه صيغة التصغير ، فيكون كذلك اسمه عند يهود المدينة ويحتمل أن تصغيره جرى على لسان يهود المدينة تحبيبا فيه .
قرأ الجمهور عزير - ممنوعا من التنوين للعجمة - وهو ما جزم به وقرأه الزمخشري عاصم والكسائي ويعقوب : بالتنوين على اعتباره عربيا بسبب التصغير الذي أدخل عليه لأن التصغير لا يدخل في الأعلام العجمية ، وهو ما جزم به عبد القاهر في فصل النظم من دلائل الإعجاز ، وتأول قراءة ترك التنوين بوجهين لم يرتضهما . الزمخشري
وأما النصارى ببنوة المسيح فهو معلوم مشهور . وقد مضى الكلام على قول المسيح عند قوله - تعالى : وآتينا عيسى ابن مريم البينات في سورة البقرة . وعند قوله - تعالى : اسمه المسيح عيسى ابن مريم في سورة آل عمران .
والإشارة بـ " ذلك " إلى القول المستفاد من " قالت اليهود " - " وقالت النصارى " . والمقصود من الإشارة تشهير القول وتمييزه ، زيادة في تشنيعه عند المسلمين .
و " بأفواههم " حال من القول ، والمراد أنه قول لا يعدو الوجود في اللسان وليس له ما يحققه في الواقع ، وهذا كناية عن كونه كاذبا كقوله - تعالى : [ ص: 169 ] كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا . وفي هذا أيضا إلزام لهم بهذا القول ، وسد باب تنصلهم منه إذ هو إقرارهم بأفواههم وصريح كلامهم .
والمضاهاة : المشابهة ، وإسنادها إلى القائلين : على تقدير مضاف ظاهر من الكلام ، أي يضاهي قولهم .
و الذين كفروا من قبل هم المشركون : من العرب ، ومن اليونان ، وغيرهم ، وكونهم من قبل النصارى ظاهر ، وأما كونهم من قبل اليهود : فلأن اعتقاد بنوة عزير طارئ في اليهود وليس من عقيدة قدمائهم .
وجملة قاتلهم الله دعاء مستعمل في التعجيب ، وهو مركب يستعمل في التعجب من عمل شنيع ، والمفاعلة فيه للمبالغة في الدعاء : أي قتلهم الله قتلا شديدا . وجملة التعجيب مستأنفة كشأن التعجب .
وجملة أنى يؤفكون مستأنفة . والاستفهام فيها مستعمل في التعجيب من حالهم في الاتباع الباطل ، حتى شبه المكان الذي يصرفون إليه باعتقادهم بمكان مجهول من شأنه أن يسأل عنه باسم الاستفهام عن المكان ، ومعنى " يؤفكون " يصرفون . يقال : أفكه يأفكه إذا صرفه ، قال - تعالى : يؤفك عنه من أفك والإفك بمعنى الكذب قد جاء من هذه المادة لأن الكاذب يصرف السامع عن الصدق ، وقد تقدم ذلك غير مرة .