مرضه :
قال عبد الله : سمعت أبي يقول : استكملت سبعا وسبعين سنة ، ودخلت في ثمان ، فحم من ليلته ، ومات اليوم العاشر .
وقال صالح : لما كان أول ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين ، حم أبي ليلة الأربعاء ، وبات وهو محموم ، يتنفس تنفسا شديدا ، وكنت قد عرفت علته ، وكنت أمرضه إذا اعتل ، فقلت له : يا أبة ، على ما أفطرت البارحة ؟ قال : على ماء باقلى . ثم أراد القيام ، فقال : خذ بيدي ، فأخذت بيده ، فلما صار إلى الخلاء ، ضعف ، وتوكأ علي . وكان يختلف إليه [ ص: 335 ] غير متطبب كلهم مسلمون . فوصف له متطبب قرعة تشوى ، ويسقى ماءها ، وهذا كان يوم الثلاثاء ، فمات يوم الجمعة ، فقال : يا صالح . قلت : لبيك . قال : لا تشوي في منزلك ، ولا في منزل أخيك . وصار الفتح بن سهل إلى الباب ليعوده فحجبته وأتى ابن علي بن الجعد فحبسته وكثر الناس . فقال : فما ترى ؟ قلت : تأذن لهم ، فيدعون لك .
قال : أستخير الله ، فجعلوا يدخلون عليه أفواجا ، حتى تمتلئ الدار ، فيسألونه ، ويدعون له ، ويخرجون ، ويدخل فوج ، وكثر الناس ، وامتلأ الشارع ، وأغلقنا باب الزقاق .
وجاء جار لنا قد خضب ، فقال أبي : إني لأرى الرجل يحيي شيئا من السنة فأفرح به .
فقال لي : وجه فاشتر تمرا ، وكفر عني كفارة يمين . قال : فبقي في خريقته نحو ثلاثة دراهم . فأخبرته ، فقال : الحمد لله . وقال : اقرأ علي الوصية ، فقرأتها ، فأقرها .
وكنت أنام إلى جنبه ، فإذا أراد حاجة ، حركني فأناوله ، وجعل يحرك لسانه ، ولم يئن إلا في الليلة التي توفي فيها . ولم يزل يصلي قائما ، أمسكه فيركع ويسجد ، وأرفعه في ركوعه .
قال : واجتمعت عليه أوجاع الحصر ، وغير ذلك ، ولم يزل عقله ثابتا ، فلما كان يوم الجمعة ، لاثنتي عشرة دخلت من ربيع الأول ، لساعتين من النهار ، توفي . [ ص: 336 ] وقال المروذي : مرض أحمد تسعة أيام ، وكان ربما أذن للناس ، فيدخلون عليه أفواجا ، يسلمون ويرد بيده . وتسامع الناس وكثروا .
وسمع السلطان بكثرة الناس ، فوكل السلطان ببابه وبباب الزقاق الرابطة وأصحاب الأخبار ، ثم أغلق باب الزقاق ، فكان الناس في الشوارع والمساجد ، حتى تعطل بعض الباعة . وكان الرجل إذا أراد أن يدخل عليه ، ربما دخل من بعض الدور وطرز الحاكة ، وربما تسلق ، وجاء أصحاب الأخبار ، فقعدوا على الأبواب .
وجاءه حاجب ابن طاهر ، فقال : إن الأمير يقرئك السلام ، وهو يشتهي أن يراك . فقال : هذا مما أكره ، وأمير المؤمنين قد أعفاني ، مما أكره .
قال : وأصحاب الخبر يكتبون بخبره إلى العسكر ، والبرد تختلف كل يوم . وجاء بنو هاشم فدخلوا عليه ، وجعلوا يبكون عليه . وجاء قوم من القضاة وغيرهم ، فلم يؤذن لهم . ودخل عليه شيخ ، فقال : اذكر وقوفك بين يدي الله ، فشهق أبو عبد الله ، وسالت دموعه .
فلما كان قبل وفاته بيوم أو يومين ، قال : ادعوا لي الصبيان ، بلسان ثقيل . قال : فجعلوا ينضمون إليه ، وجعل يشمهم ويمسح رءوسهم ، وعينه تدمع ، وأدخلت تحته الطست ، فرأيت بوله دما عبيطا . فقلت للطبيب ، فقال : هذا رجل قد فتت الحزن والغم جوفه . [ ص: 337 ] واشتدت علته يوم الخميس ووضأته ، فقال : خلل الأصابع ، فلما كانت ليلة الجمعة ، ثقل ، وقبض صدر النهار ، فصاح الناس ، وعلت الأصوات بالبكاء ، حتى كأن الدنيا قد ارتجت ، وامتلأت السكك والشوارع .
الخلال : أخبرني عصمة بن عصام ، حدثنا حنبل ، قال : أعطى بعض ولد الفضل بن الربيع أبا عبد الله ، وهو في الحبس ثلاث شعرات ، فقال : هذه من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأوصى أبو عبد الله عند موته أن يجعل على كل عين شعرة ، وشعرة على لسانه . ففعل ذلك به عند موته .
وقال عبد الله بن أحمد ومطين وغيرهما : مات لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول ، يوم الجمعة . وقال ذلك ، البخاري . فقد غلط وعباس الدوري ابن قانع حيث يقول : ربيع الآخر .
الخلال : حدثنا المروذي ، قال : أخرجت الجنازة بعد منصرف الناس من الجمعة .
أحمد في " مسنده " : حدثنا أبو عامر ، حدثنا ، عن هشام بن سعد سعيد بن أبي هلال ، عن ربيعة بن سيف ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : . [ ص: 338 ] ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر
قال صالح بن أحمد : وجه ابن طاهر - يعني : نائب بغداد - بحاجبه مظفر ، ومعه غلامان معهما مناديل فيها ثياب وطيب ، فقالوا : الأمير يقرئك السلام ، ويقول : قد فعلت ما لو كان أمير المؤمنين حاضره كان يفعله .
فقلت : أقرئ الأمير السلام ، وقل له : إن أمير المؤمنين قد أعفى أبا عبد الله في حياته مما يكره ، ولا أحب أن أتبعه بعد موته بما كان يكرهه ، فعاد ، وقال : يكون شعاره ، فأعدت عليه مثل قولي . وقد كان غزلت له الجارية ثوبا عشاريا قوم بثمانية وعشرين درهما ، ليقطع منه قميصين ، فقطعنا له لفافتين ، وأخذنا من فوران لفافة أخرى فأدرجناه في ثلاث لفائف .
واشترينا له حنوطا ، وفرغ من غسله ، وكفناه ، وحضر نحو مائة من بني هاشم ، ونحن نكفنه . وجعلوا يقبلون جبهته حتى رفعناه على السرير .
قال عبد الله : صلى على أبي محمد بن عبد الله بن طاهر ، غلبنا على الصلاة عليه ، وقد كنا صلينا عليه نحن والهاشميون في الدار .
وقال صالح : وجه ابن طاهر إلي : من يصلي على أبي عبد الله ؟ قلت : أنا . فلما صرنا إلى الصحراء ، إذا بابن طاهر واقف ، فخطا إلينا خطوات ، وعزانا ، ووضع السرير . فلما انتظرت هنية ، تقدمت ، وجعلنا نسوي الصفوف فجاءني ابن طاهر ، فقبض هذا على يدي ، على يدي ، وقالوا : الأمير . فمانعتهم فنحياني وصلى هو ولم يعلم [ ص: 339 ] الناس بذلك ، فلما كان في الغد علموا ، فجعلوا يجيئون ، ويصلون على القبر . ومكث الناس ما شاء الله ، يأتون ، فيصلون على القبر . ومحمد بن نصر
قال عبيد الله بن يحيى بن خاقان : سمعت المتوكل ، يقول لمحمد بن عبد الله : طوبى لك يا محمد ، صليت على ، رحمة الله عليه . أحمد بن حنبل
قال الخلال : سمعت عبد الوهاب الوراق ، يقول : ما بلغنا أن جمعا في الجاهلية ولا الإسلام مثله - يعني : من شهد الجنازة - حتى بلغنا أن الموضع مسح وحزر على الصحيح ، فإذا هو نحو من ألف ألف . وحزرنا على القبور نحوا من ستين ألف امرأة ، وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع والدروب ، ينادون من أراد الوضوء .
وروى عبد الله بن إسحاق الخراساني : أخبرنا بنان بن أحمد القصباني أنه حضر جنازة أحمد ، فكانت الصفوف من الميدان إلى قنطرة باب القطيعة . وحزر من حضرها من الرجال بثمانمائة ألف ، ومن النساء بستين ألف امرأة ، ونظروا فيمن صلى العصر يومئذ في مسجد الرصافة ، فكانوا نيفا وعشرين ألفا .