القول في تأويل والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ) قوله تعالى (
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : والنساء اللواتي بن من أزواجهن ، [ ص: 31 ] ولهن أولاد قد ولدنهم من أزواجهن قبل بينونتهن منهم بطلاق أو ولدنهم منهم بعد فراقهم إياهن من وطء كان منهم لهن قبل البينونة " يرضعن أولادهن " يعني بذلك : أنهن أحق برضاعهم من غيرهم .
وليس ذلك بإيجاب من الله - تعالى ذكره - عليهن رضاعهم ، إذا كان المولود له ولد حيا موسرا ؛ لأن الله - تعالى ذكره - قال في " سورة النساء القصرى " ( وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ) [ سورة الطلاق : 6 ] فأخبر - تعالى ذكره - : أن الوالدة والمولود له إن تعاسرا في الأجرة التي ترضع بها المرأة ولدها أن أخرى سواها ترضعه ، فلم يوجب عليها فرضا رضاع ولدها . فكان معلوما بذلك أن قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين " دلالة على مبلغ غاية الرضاع التي متى اختلف الوالدان في رضاع المولود بعده ، جعل حدا يفصل به بينهما ، لا دلالة على أن فرضا على الوالدات رضاع أولادهن .
قال أبو جعفر : وأما قوله : " حولين " فإنه يعني به سنتين ، كما : -
4948 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " سنتين .
[ ص: 32 ] 4949 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
وأصل " الحول " من قول القائل : " حال هذا الشيء " إذا انتقل . ومنه قيل : " تحول فلان من مكان كذا " إذا انتقل عنه .
فإن قال لنا قائل : وما معنى ذكر " كاملين " في قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " بعد قوله : " يرضعن حولين " وفي ذكر " الحولين " مستغنى عن ذكر " الكاملين " إذ كان غير مشكل على سامع سمع قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين " ما يراد به؟ فما الوجه الذي من أجله زيد ذكر كاملين؟ .
قيل : إن العرب قد تقول : " أقام فلان بمكان كذا حولين ، أو يومين ، أو شهرين " وإنما أقام به يوما وبعض آخر ، أو شهرا وبعض آخر ، أو حولا وبعض آخر ، فقيل : " حولين كاملين " ليعرف سامعو ذلك أن الذي أريد به حولان تامان ، لا حول وبعض آخر . وذلك كما قال الله - تعالى ذكره - : ( واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه ) [ سورة البقرة : 203 ] . ومعلوم أن المتعجل إنما يتعجل في يوم ونصف ، وكذلك ذلك في اليوم الثالث من أيام التشريق ، وأنه ليس منه شيء تام ، ولكن العرب تفعل ذلك في الأوقات خاصة فتقول : " اليوم يومان منذ لم أره " [ ص: 33 ] وإنما تعني بذلك يوما وبعض آخر . وقد توقع الفعل الذي تفعله في الساعة أو اللحظة ، على العام والزمان واليوم ، فتقول : " زرته عام كذا - وقتل فلان فلانا زمان صفين " وإنما تفعل ذلك ، لأنها لا تقصد بذلك الخبر عن عدد الأيام والسنين ، وإنما تعني بذلك الأخبار عن الوقت الذي كان فيه المخبر عنه ، فجاز أن ينطق " بالحولين " و " اليومين " على ما وصفت قبل . لأن معنى الكلام في ذلك : فعلته إذ ذاك ، وفي ذلك الوقت .
فكذلك قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " لما جاز الرضاع في الحولين وليسا بالحولين وكان الكلام لو أطلق في ذلك بغير تضمين الحولين بالكمال ، وقيل : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين " محتملا أن يكون معنيا به حول وبعض آخر نفى اللبس عن سامعيه بقوله : " كاملين " أن يكون مرادا به حول وبعض آخر ، وأبين بقوله : " كاملين " عن وقت تمام حد الرضاع ، وأنه تمام الحولين بانقضائهما ، دون انقضاء أحدهما وبعض الآخر .
قال أبو جعفر : ثم اختلف أهل التأويل في الذي دلت عليه هذه الآية ، من مبلغ غاية رضاع المولودين : أهو حد لكل مولود ، أو هو حد لبعض دون بعض؟ [ ص: 34 ] فقال بعضهم : هو حد لبعض دون بعض .
ذكر من قال ذلك :
4950 - حدثنا قال : حدثنا محمد بن المثنى عبد الوهاب قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في التي تضع لستة أشهر : أنها ترضع حولين كاملين ، وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين لتمام ثلاثين شهرا ، وإذا وضعت لتسعة أشهر أرضعت واحدا وعشرين شهرا .
4951 - حدثنا قال : حدثنا ابن المثنى عبد الأعلى قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، بمثله ، ولم يرفعه إلى ابن عباس .
4952 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي عبيد قال : رفع إلى عثمان امرأة ولدت لستة أشهر ، فقال : إنها رفعت [ إلي امرأة ] ، لا أراها إلا قد جاءت بشر - أو نحو هذا - ولدت لستة أشهر! فقال ابن عباس : إذا أتمت الرضاع كان الحمل لستة أشهر . قال : وتلا ابن عباس : ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) [ سورة الأحقاف : 15 ] ، فإذا أتمت الرضاع كان الحمل لستة أشهر . فخلى عثمان سبيلها .
وقال آخرون : بل ذلك حد رضاع كل مولود اختلف والداه في رضاعه ، [ ص: 35 ] فأراد أحدهما البلوغ إليه ، والآخر التقصير عنه .
ذكر من قال ذلك :
4953 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " فجعل الله سبحانه الرضاع حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ، ثم قال : " فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما " إن أرادا أن يفطماه قبل الحولين وبعده .
4954 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن قال : قلت ابن جريج لعطاء : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " قال : إن أرادت أمه أن تقصر عن حولين كان عليها حقا أن تبلغه - لا أن تزيد عليه إلا أن يشاء .
4955 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا مهران
وحدثني علي بن سهل قال : حدثنا جميعا ، عن زيد بن أبي الزرقاء الثوري في قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " والتمام الحولان . قال : فإذا أراد الأب أن يفطمه قبل الحولين ولم ترض المرأة فليس له ذلك . وإذا قالت المرأة : " أنا أفطمه قبل الحولين " وقال الأب : " لا " فليس لها أن تفطمه حتى يرضى الأب ، حتى يجتمعا . فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه ، وإذا اختلفا لم يفطماه قبل الحولين . وذلك قوله : " فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور " .
وقال آخرون : بل دل الله - تعالى ذكره - بقوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " على [ ص: 36 ] أن لا رضاع بعد الحولين ، فإن الرضاع إنما هو كان في الحولين .
ذكر من قال ذلك :
4956 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : أخبرنا ابن أبي ذئب قال : حدثنا الزهري ، عن ابن عباس أنهما قالا : إن الله - تعالى ذكره - يقول : " وابن عمر والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " ولا نرى رضاعا بعد الحولين يحرم شيئا
4957 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا ابن المبارك ، عن ، عن يونس بن يزيد الزهري ، قال : كان ابن عمر يقولان : لا رضاع بعد الحولين . وابن عباس
4958 - حدثنا أبو السائب قال : حدثنا حفص ، عن الشيباني ، عن أبي الضحى ، عن أبي عبد الرحمن ، عن عبد الله قال : ما كان من رضاع بعد سنتين أو في الحولين بعد الفطام فلا رضاع .
4959 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، وعبد الرحمن قالا : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم عن علقمة ، أنه رأى امرأة ترضع بعد حولين فقال : لا ترضعيه .
4960 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن الشيباني قال : سمعت الشعبي يقول : ما كان من وجور أو سعوط أو رضاع في الحولين فإنه يحرم ، وما كان بعد الحولين لم يحرم شيئا . [ ص: 37 ] 4961 - حدثنا قال : حدثنا ابن المثنى محمد بن جعفر قال : حدثنا شعبة ، عن المغيرة ، عن إبراهيم : أنه كان يحدث عن عبد الله ، أنه قال : لا رضاع بعد فصال ، أو بعد حولين .
4962 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا حسن بن عطية قال : حدثنا إسرائيل ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ليس يحرم من الرضاع بعد التمام ، إنما يحرم ما أنبت اللحم وأنشأ العظم
4963 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن : أن عمرو بن دينار ابن عباس قال : لا رضاع بعد فصال السنتين .
4964 - حدثنا قال : حدثنا أبي قال : حدثنا هلال بن العلاء الرقي عبيد الله ، عن زيد ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي الضحى قال : سمعت ابن عباس يقول : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " قال : لا رضاع إلا في هذين الحولين .
وقال آخرون : بل كان قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " [ ص: 38 ] دلالة من الله - تعالى ذكره - عباده على أن فرضا على والدات المولودين أن يرضعنهم حولين كاملين ، ثم خفف - تعالى ذكره - ذلك بقوله : " لمن أراد أن يتم الرضاعة " فجعل الخيار في ذلك إلى الآباء والأمهات ، إذا أرادوا الإتمام أكملوا حولين ، وإن أرادوا قبل ذلك فطم المولود ، كان ذلك إليهم على النظر منهم للمولود
ذكر من قال ذلك :
4965 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " ثم أنزل الله اليسر والتخفيف بعد ذلك ، فقال - تعالى ذكره - : " لمن أراد أن يتم الرضاعة " .
4966 - حدثت عن عمار قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " يعني المطلقات ، يرضعن أولادهن حولين كاملين . ثم أنزل الرخصة والتخفيف بعد ذلك ، فقال : " لمن أراد أن يتم الرضاعة " .
ذكر من قال : إن " الوالدات " اللواتي ذكرهن الله في هذا الموضع : البائنات من أزواجهن ، على ما وصفنا قبل .
4967 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن قال : " السدي والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " إلى " إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف " أما " الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " فالرجل يطلق امرأته وله منها ولد ، وأنها ترضع له ولده بما يرضع له غيرها .
4968 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : أخبرنا ابن المبارك ، [ ص: 39 ] عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " قال : إذا طلق الرجل امرأته وهي ترضع له ولدا .
4969 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، بنحوه .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " القول الذي رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، ووافقه على القول به عطاء والقول الذي روي عن والثوري عبد الله بن مسعود وابن عباس : وهو أنه دلالة على الغاية التي ينتهى إليها في رضاع المولود إذا اختلف والداه في رضاعه ، وأن لا رضاع بعد الحولين يحرم شيئا ، وأنه معني به كل مولود ، لستة أشهر كان ولاده أو لسبعة أو لتسعة . وابن عمر
فأما قولنا : " إنه دلالة على الغاية التي ينتهى إليها في الرضاع عند اختلاف الوالدين فيه " فلأن الله - تعالى ذكره - لما حد في ذلك حدا ، كان غير جائز أن يكون ما وراء حده موافقا في الحكم ما دونه . لأن ذلك لو كان كذلك ، لم يكن للحد معنى معقول . وإذا كان ذلك كذلك ، فلا شك أن الذي هو دون الحولين من الأجل ، لما كان وقت رضاع ، كان ما وراءه غير وقت له ، وأنه وقت لترك الرضاع وأن تمام الرضاع لما كان تمام الحولين ، وكان التام من الأشياء لا معنى إلى الزيادة [ ص: 40 ] فيه ، كان لا معنى للزيادة في الرضاع على الحولين ، وأن ما دون الحولين من الرضاع لما كان محرما ، كان ما وراءه غير محرم .
وإنما قلنا : " هو دلالة على أنه معني به كل مولود ، لأي وقت كان ولاده ، لستة أشهر أو سبعة أو تسعة " لأن الله - تعالى ذكره - عم بقوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " ولم يخصص به بعض المولودين دون بعض .
وقد دللنا على فساد القول بالخصوص بغير بيان الله - تعالى ذكره - ذلك في كتابه ، أو على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - في كتابنا ( كتاب البيان عن أصول الأحكام ) ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
فإن قال لنا قائل : فإن الله - تعالى ذكره - : قد بين ذلك بقوله : ( وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) [ سورة الأحقاف : 15 ] ، فجعل ذلك حدا للمعنيين كليهما ، فغير جائز أن يكون حمل ورضاع أكثر من الحد الذي حده الله - تعالى ذكره - . فما نقص من مدة الحمل عن تسعة أشهر ، فهو مزيد في مدة الرضاع ، وما زيد في مدة الحمل ، نقص من مدة الرضاع . وغير جائز أن يجاوز بهما كليهما مدة ثلاثين شهرا ، كما حده الله - تعالى ذكره - .
قيل له : فقد يجب أن يكون مدة الحمل - على هذه المقالة - إن بلغت حولين كاملين ، ألا يرضع المولود إلا ستة أشهر ، وإن بلغت أربع سنين ، أن يبطل الرضاع فلا يرضع ، لأن الحمل قد استغرق الثلاثين شهرا وجاوز غايته أو يزعم قائل هذه المقالة : أن مدة الحمل لن تجاوز تسعة أشهر ، فيخرج من قول جميع الحجة ، ويكابر الموجود والمشاهد ، وكفى بهما حجة على خطأ دعواه إن ادعى ذلك . فإلى أي الأمرين لجأ قائل هذه المقالة ، وضح لذوي الفهم فساد قوله .
[ ص: 41 ] فإن قال لنا قائل : فما معنى قوله - إن كان الأمر على ما وصفت - : " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " وقد ذكرت آنفا أنه غير جائز أن يكون ما جاوز حد الله - تعالى ذكره - نظير ما دون حده في الحكم؟ وقد قلت : إن الحمل والفصال قد يجاوزان ثلاثين شهرا؟
قيل : إن الله - تعالى ذكره - لم يجعل قوله : " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " حدا تعبد عباده بأن لا يجاوزوه ، كما جعل قوله : " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة " حدا لرضاع المولود الثابت الرضاع ، وتعبد العباد بحمل والديه عند اختلافهما فيه ، وإرادة أحدهما الضرار به . وذلك أن الأمر من الله - تعالى ذكره - إنما يكون فيما يكون للعباد السبيل إلى طاعته بفعله والمعصية بتركه . فأما ما لم يكن لهم إلى فعله ولا إلى تركه سبيل ، فذلك مما لا يجوز الأمر به ولا النهي عنه ولا التعبد به .
فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الحمل مما لا سبيل للنساء إلى تقصير مدته ولا إلى إطالتها ، فيضعنه متى شئن ، ويتركن وضعه إذا شئن كان معلوما أن قوله : " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " إنما هو خبر من الله - تعالى ذكره - عن أن من خلقه من حملته وولدته وفصلته في ثلاثين شهرا ، لا أمر بأن لا يتجاوز في مدة حمله وفصاله ثلاثين شهرا ، لما وصفنا . وكذلك قال ربنا - تعالى ذكره - في كتابه : ( ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ) [ سورة الأحقاف : 15 ] .
[ ص: 42 ] فإن ظن ذو غباء أن الله - تعالى ذكره - إذ وصف أن من خلقه من حملته أمه ووضعته وفصلته في ثلاثين شهرا ، فواجب أن يكون جميع خلقه ذلك صفتهم وأن ذلك دلالة على أن حمل كل عباده وفصاله ثلاثون شهرا فقد يجب أن يكون كل عباده صفتهم أن يقولوا إذا بلغوا أشدهم وبلغوا أربعين سنة : ( رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه ) [ سورة الأحقاف : 15 ] ، على ما وصف الله به الذي وصف في هذه الآية .
وفي وجودنا من يستحكم كفره بالله ، وكفرانه نعم ربه عليه ، وجرأته على والديه بالقتل والشتم وضروب المكاره ، عند استكماله الأربعين من سنيه وبلوغه أشده ما يعلم أنه لم يعن الله بهذه الآية صفة جميع عباده ، بل يعلم أنه إنما وصف بها بعضا منهم دون بعض ، وذلك ما لا ينكره ولا يدفعه أحد . لأن من يولد من الناس لسبعة أشهر ، أكثر ممن يولد لأربع سنين ولسنتين; كما أن من يولد لتسعة أشهر ، أكثر ممن يولد لستة أشهر ولسبعة أشهر .
قال أبو جعفر : واختلفت القرأة في قراءة ذلك ، فقرأ عامة أهل المدينة [ ص: 43 ] والعراق والشام : " لمن أراد أن يتم الرضاعة " ب " الياء " في " يتم " ونصب " الرضاعة " - بمعنى : لمن أراد من الآباء والأمهات أن يتم رضاع ولده .
وقرأه بعض أهل الحجاز : " لمن أراد أن تتم الرضاعة " ب " التاء " في " تتم " ورفع " الرضاعة " بصفتها .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأ ب " الياء " في " يتم " ونصب " الرضاعة " . لأن الله - تعالى ذكره - قال : " والوالدات يرضعن أولادهن " فكذلك هن يتممنها إذا أردن هن والمولود له إتمامها وأنها القراءة التي جاء بها النقل المستفيض الذي ثبتت به الحجة ، دون القراءة الأخرى .
وقد حكي في الرضاعة سماعا من العرب كسر " الراء " التي فيها . فإن تكن صحيحة ، فهي نظيرة " الوكالة والوكالة " و " الدلالة والدلالة " و " مهرت الشيء مهارة ومهارة " - فيجوز حينئذ " الرضاع " و " الرضاع " كما قيل : " الحصاد ، والحصاد " . وأما القراءة فبالفتح لا غير .