القول في تأويل قوله ( عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه )
قال أبو جعفر : يقول جل من قائل لعباده المؤمنين به وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - : عفا الله ، أيها المؤمنون ، عما سلف منكم في جاهليتكم ، من إصابتكم الصيد وأنتم حرم ، و قتلكموه ، فلا يؤاخذكم بما كان منكم في ذلك قبل تحريمه إياه عليكم ، ولا يلزمكم له كفارة في مال ولا نفس . ولكن من عاد منكم لقتله وهو محرم ، [ ص: 48 ] بعد تحريمه بالمعنى الذي كان يقتله في حال كفره ، وقبل تحريمه عليه ، من استحلاله قتله ، فينتقم الله منه .
وقد يحتمل أن يكون معناه : من عاد لقتله بعد تحريمه في الإسلام ، فينتقم الله منه في الآخرة . فأما في الدنيا ، فإن عليه من الجزاء والكفارة فيها ما بينت .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك .
فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه .
ذكر من قال ذلك :
12636 - حدثنا هناد قال : حدثنا ابن أبي زائدة قال : أخبرنا قال : قلت ابن جريج لعطاء : ما " عفا الله عما سلف " ؟ قال : عما كان في الجاهلية . قال قلت : ما " ومن عاد فينتقم الله منه " ؟ قال : من عاد في الإسلام ، فينتقم الله منه . وعليه مع ذلك الكفارة .
12637 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا أبو عاصم قال : أخبرنا قال : قلت ابن جريج لعطاء ، فذكر نحوه وزاد فيه ، وقال : وإن عاد فقتل ، عليه الكفارة . قلت : هل في العود من حد يعلم؟ قال : لا قلت : فترى حقا على الإمام أن يعاقبه؟ قال : هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله ، ولكن يفتدي .
12638 - حدثنا سفيان قال : حدثنا محمد بن بكر وأبو خالد ، عن عن ابن جريج ، عطاء : " ومن عاد فينتقم الله منه " قال : في الإسلام ، وعليه مع ذلك الكفارة . قلت : عليه من الإمام عقوبة؟ قال : لا . [ ص: 49 ]
12639 - حدثنا هناد قال : حدثنا وحدثنا وكيع ابن وكيع قال : حدثنا أبي عن سفيان ، عن ، عن ابن جريج عطاء : " عفا الله عما سلف " عما كان في الجاهلية " ومن عاد " قال : في الإسلام " فينتقم الله منه " وعليه الكفارة . قال قلت لعطاء : فعليه من الإمام عقوبة؟ قال : لا .
12640 - حدثنا قال : حدثنا محمد بن بشار عبد الرحمن قال : حدثنا سفيان ، عن ، عن ابن جريج عطاء قال : يحكم عليه في الخطأ والعمد والنسيان ، وكلما أصاب ، قال الله عز وجل : عفا الله عما سلف ، قال : ما كان في الجاهلية ومن عاد فينتقم الله منه ، مع الكفارة قال سفيان ، قال : فقلت : أيعاقبه السلطان؟ قال : لا . ابن جريج
12641 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا محمد بن بكر وأبو خالد ، عن قال : قلت ابن جريج لعطاء : " عفا الله عما سلف " قال : عما كان في الجاهلية .
12642 - حدثني يعقوب قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، عن عطاء بن أبي رباح أنه قال : يحكم عليه كلما عاد .
12643 - حدثنا هناد قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد قال : كلما أصاب المحرم الصيد ناسيا حكم عليه .
12644 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال : حدثنا ، عن فضيل بن عياض منصور ، عن إبراهيم قال : كلما أصاب الصيد المحرم حكم عليه .
12645 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء قال : من قتل الصيد ثم عاد ، حكم عليه .
12646 - حدثنا عمرو قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ، عن داود بن أبي هند سعيد بن جبير قال : يحكم عليه ، أفيخلع! أفيترك! . [ ص: 50 ]
12647 - حدثنا عمرو قال : حدثنا عبد الوهاب قال : حدثنا ، عن داود بن أبي هند سعيد بن جبير : الذي يصيب الصيد وهو محرم فيحكم عليه ثم يعود؟ قال : يحكم عليه .
12648 - حدثنا عمرو قال : حدثنا كثير بن هشام قال : حدثنا الفرات بن سلمان ، عن عبد الكريم ، عن عطاء قال : يحكم عليه كلما عاد .
وقال آخرون : معنى ذلك : عفا الله عما سلف منكم في ذلك في الجاهلية ، ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه ، بإلزامه الكفارة .
ذكر من قال ذلك :
12649 - حدثني ابن البرقي قال : حدثنا عمرو ، عن زهير ، عن سعيد بن جبير في قول الله - تعالى ذكره - : " وعطاء ومن عاد فينتقم الله منه " قالا " ينتقم الله " يعني بالجزاء " عفا الله عما سلف " في الجاهلية .
وقال آخرون في ذلك : عفا الله عما سلف من قتل من قتل منكم الصيد حراما في أول مرة . ومن عاد ثانية لقتله بعد أولى حراما ، فالله ولي الانتقام منه ، دون كفارة تلزمه لقتله إياه .
ذكر من قال ذلك :
12650 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني [ ص: 51 ] معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : من قتل شيئا من الصيد خطأ وهو محرم ، حكم عليه فيه مرة واحدة . فإن عاد يقال له : " ينتقم الله منك " كما قال الله عز وجل .
12651 - حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي قال : حدثنا ، عن فضيل بن عياض هشام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال . إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه . فإن عاد ، لم يحكم عليه ، وكان ذلك إلى الله عز وجل ، إن شاء عاقبه ، وإن شاء عفا عنه . ثم قرأ هذه الآية : " ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام " .
12652 - حدثنا هناد قال : حدثنا يحيى بن أبي زائدة قال : حدثنا داود ، عن عامر قال : جاء رجل إلى شريح فقال : إني أصبت صيدا وأنا محرم! فقال : هل أصبت قبل ذلك شيئا؟ قال : لا . قال : لو قلت " نعم " وكلتك إلى الله يكون هو ينتقم منك ، إنه عزيز ذو انتقام! قال داود : فذكرت ذلك فقال : بل يحكم عليه ، أفيخلع ! لسعيد بن جبير
12653 - حدثني أبو السائب قالا حدثنا وعمرو بن علي أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم قال : إذا أصاب الرجل الصيد وهو محرم ، قيل له أصبت صيدا قبل هذا؟ فإن قال : " نعم " قيل له : اذهب ، فينتقم الله منك! وإن قال " لا " حكم عليه .
12654 - حدثنا قال : حدثنا محمد بن المثنى ابن أبي عدي ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن إبراهيم ، في الذي يقتل الصيد ثم يعود ، قال : كانوا يقولون : من عاد لا يحكم عليه ، أمره إلى الله عز وجل .
12655 - حدثنا عمرو قال : حدثنا ابن عيينة ، عن ، [ ص: 52 ] عن داود بن أبي هند الشعبي : أن رجلا أتى شريحا فقال : أصبت صيدا؟ ، قال : أصبت قبله صيدا؟ قال : لا . قال : أما إنك لو قلت " نعم " لم أحكم عليك .
12656 - حدثنا عمرو قال : حدثنا ابن أبي عدي قال : حدثنا داود ، عن الشعبي ، عن شريح مثله .
12657 - حدثنا عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، عن الأشعث ، عن محمد ، عن شريح ، في الذي يصيب الصيد قال : يحكم عليه ، فإن عاد انتقم الله منه .
12658 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا ، عن حكام بن سلم عنبسة ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير : ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم ، قال : يحكم عليه في العمد مرة واحدة ، فإن عاد لم يحكم عليه ، وقيل له : " اذهب ينتقم الله منك " ويحكم عليه في الخطأ أبدا .
12659 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن سعيد بن جبير قال : رخص في قتل الصيد مرة ، فمن عاد لم يدعه الله - تعالى ذكره - حتى ينتقم منه .
12660 - حدثنا هناد قال : حدثنا ، عن وكيع سفيان ، عن خصيف ، عن سعيد بن جبير مثله .
12661 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، جميعا عن وابن أبي عدي هشام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، فيمن أصاب صيدا فحكم عليه ، ثم أعاد ، قال : لا يحكم ، ينتقم الله منه .
12662 - حدثنا عمرو قال : حدثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إنما قال الله عز وجل : " ومن قتله منكم متعمدا " يقول : متعمدا لقتله ، ناسيا لإحرامه ، فذلك الذي يحكم عليه ، فإن عاد لا يحكم عليه ، وقيل له : " ينتقم الله منك " .
12663 - حدثنا عمرو قال : حدثنا كثير بن هشام قال : حدثنا الفرات [ ص: 53 ] بن سلمان ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد : إن عاد لم يحكم عليه ، وقيل له : " ينتقم الله منك " .
12664 - حدثنا عمرو قال : حدثنا يحيى بن سعيد قال : حدثنا الأشعث ، عن الحسن ، في الذي يصيب الصيد فيحكم عليه ثم يعود ، قال : لا يحكم عليه .
وقال آخرون : معنى ذلك : عفا الله عما سلف من قتلكم الصيد قبل تحريم الله - تعالى ذكره - ذلك عليكم . ومن عاد لقتله بعد تحريم الله إياه عليه ، عالما بتحريمه ذلك عليه ، عامدا لقتله ، ذاكرا لإحرامه ، فإن الله هو المنتقم منه ، ولا كفارة لذنبه ذلك ، ولا جزاء يلزمه له في الدنيا .
ذكر من قال ذلك :
12665 - حدثنا قال : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ومن عاد فينتقم الله منه " قال : من عاد بعد نهي الله - بعد أن يعرف أنه محرم ، وأنه ذاكر لحرمه - لم ينبغ لأحد أن يحكم عليه ، ووكلوه إلى نقمة الله عز وجل . فأما الذي يتعمد قتل الصيد وهو ناس لحرمه ، أو جاهل أن قتله محرم ، فهؤلاء الذين يحكم عليهم . فأما من قتله متعمدا بعد نهي الله ، وهو يعرف أنه محرم ، وأنه حرام ، فذلك يوكل إلى نقمة الله ، فذلك الذي جعل الله عليه النقمة .
وهذا شبيه بقول مجاهد الذي ذكرناه قبل . [ ص: 54 ]
وقال آخرون : عني بذلك شخص بعينه .
ذكر من قال ذلك :
12666 - حدثنا عمرو بن علي قال : حدثنا معتمر بن سليمان قال : حدثنا زيد أبو المعلى : أن رجلا أصاب صيدا وهو محرم ، فتجوز له عنه . ثم عاد ، فأرسل الله عليه نارا فأحرقته ، فذلك قوله : " ومن عاد فينتقم الله منه " قال : في الإسلام .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا ، قول من قال : معناه : " ومن عاد في الإسلام لقتله بعد نهي الله - تعالى ذكره - عنه ، فينتقم الله منه ، وعليه مع ذلك الكفارة " لأن الله عز وجل إذ أخبر أنه ينتقم منه ، لم يخبرنا وقد أوجب عليه في قتله الصيد عمدا ما أوجب من الجزاء أو الكفارة بقوله : " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم " أنه قد أزال عنه الكفارة في المرة الثانية والثالثة ، بل أعلم عباده ما أوجب من الحكم على قاتل الصيد من المحرمين عمدا ، ثم أخبر أنه منتقم ممن عاد ، ولم يقل : " ولا كفارة عليه في الدنيا " .
فإن ظن ظان أن الكفارة مزيلة العقاب ، ولو كانت الكفارة لازمة له في الدنيا ، لبطل العقاب في الآخرة ، فقد ظن خطأ . وذلك أن الله عز وجل أن يخالف بين عقوبات معاصيه بما شاء وأحب ، فيزيد في عقوبته على بعض معاصيه مما ينقص من بعض ، وينقص من بعض مما يزيد في بعض ، كالذي فعل من ذلك في مخالفته بين عقوبته الزاني البكر والزاني الثيب المحصن ، وبين سارق [ ص: 55 ] ربع دينار وبين سارق أقل من ذلك . فكذلك خالف بين عقوبته قاتل الصيد من المحرمين عمدا ابتداء ، وبين عقوبته عودا بعد بدء . فأوجب على البادئ المثل من النعم ، أو الكفارة بالإطعام ، أو العدل من الصيام ، وجعل ذلك عقوبة جرمه بقوله : " ليذوق وبال أمره " وجعل على العائد بعد البدء ، وزاده من عقوبته ما أخبر عباده أنه فاعل به من الانتقام ، تغليظا منه عز وجل للعود بعد البدء . ولو كانت عقوباته على الأشياء متفقة ، لوجب أن لا يكون حد في شيء ، مخالفا حدا في غيره ، ولا عقاب في الآخرة ، أغلظ من عقاب . وذلك خلاف ما جاء به محكم الفرقان .
وقد زعم بعض الزاعمين أن معنى ذلك : ومن عاد في الإسلام بعد نهي الله عن قتله لقتله بالمعنى الذي كان القوم يقتلونه في جاهليتهم ، فعفا لهم عنه عند تحريم قتله عليهم ، وذلك قتله على استحلال قتله . قال : فأما إذا قتله على غير ذلك الوجه وذلك أن يقتله على وجه الفسوق لا على وجه الاستحلال فعليه الجزاء والكفارة كلما عاد .
وهذا قول لا نعلم قائلا قاله من أهل التأويل . وكفى خطأ بقوله ، خروجه عن أقوال أهل العلم ، لو لم يكن على خطئه دلالة سواه ، فكيف وظاهر التنزيل ينبئ عن فساده؟ وذلك أن الله عز وجل عم بقوله : " ومن عاد فينتقم الله منه " كل عائد لقتل الصيد بالمعنى الذي تقدم النهي منه به في أول الآية ، ولم يخص به عائدا منهم دون عائد . فمن ادعى في التنزيل ما ليس في ظاهره ، كلف البرهان على دعواه من الوجه الذي يجب التسليم له .
وأما من زعم أن معنى ذلك : ومن عاد في قتله متعمدا بعد بدء لقتل تقدم منه في حال إحرامه ، فينتقم الله منه ، كان معنى قوله : " عفا الله عما سلف " [ ص: 56 ] إنما هو : عفا الله عما سلف من ذنبه بقتله الصيد بدءا فإن في قول الله - تعالى ذكره - : " ليذوق وبال أمره " دليلا واضحا على أن القول في ذلك غير ما قال : لأن العفو عن الجرم : ترك المؤاخذة به . ومن أذيق وبال جرمه ، فقد عوقب به . وغير جائز أن يقال لمن عوقب : " قد عفي عنه " . وخبر الله عز وجل أصدق من أن يقع فيه تناقض .
فإن قال قائل : وما تنكر أن يكون قاتل الصيد من المحرمين في أول مرة ، قد أذيق وبال أمره بما ألزم من الجزاء والكفارة ، وعفي له من العقوبة بأكثر من ذلك مما كان لله عز وجل أن يعاقبه به؟
قيل له : فإن كان ذلك جائزا أن يكون تأويل الآية عندك وإن كان مخالفا لقول أهل التأويل فما تنكر أن يكون الانتقام الذي أوعده الله - تعالى ذكره - على العود بعد البدء ، هو تلك الزيادة التي عفاها عنه في أول مرة ، مما كان له فعله به مع الذي أذاقه من وبال أمره ، فيذيقه في عوده بعد البدء وبال أمره الذي أذاقه المرة الأولى ويترك عفوه عما عفا عنه في البدء ، فيؤاخذه به؟ فلن يقول في ذلك شيئا إلا ألزم في الآخر مثله .