القول في تأويل قوله عز ذكره ( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود )
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا " ، يا أيها الذين أقروا بوحدانية الله ، وأذعنوا له بالعبودية ، وسلموا له الألوهة وصدقوا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم في نبوته وفيما جاءهم به من عند ربهم من شرائع دينه " أوفوا بالعقود " ، يعني : أوفوا بالعهود التي عاهدتموها ربكم ، والعقود التي عاقدتموها إياه ، وأوجبتم بها على أنفسكم حقوقا ، وألزمتم أنفسكم بها لله فروضا ، فأتموها بالوفاء والكمال والتمام منكم لله بما ألزمكم بها ، ولمن عاقدتموه منكم ، بما أوجبتموه له بها على أنفسكم ، ولا تنكثوها فتنقضوها بعد توكيدها .
واختلف أهل التأويل في "العقود" التي أمر الله جل ثناؤه بالوفاء بها بهذه الآية ، بعد إجماع جميعهم على أن معنى"العقود " ، العهود .
فقال بعضهم : هي العقود التي كان أهل الجاهلية عاقد بعضهم بعضا على النصرة والمؤازرة والمظاهرة على من حاول ظلمه أو بغاه سوءا ، وذلك هو معنى"الحلف" الذي كانوا يتعاقدونه بينهم .
ذكر من قال : معنى"العقود" ، العهود .
10893 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال : حدثني [ ص: 450 ] معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : " أوفوا بالعقود " ، يعني : بالعهود .
10894 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله جل وعز : " أوفوا بالعقود " ، قال : العهود .
10895 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
10896 - حدثنا سفيان قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد ، مثله .
10897 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا عبيد الله ، عن عن أبي جعفر الرازي ، الربيع بن أنس قال : جلسنا إلى مطرف بن الشخير وعنده رجل يحدثهم ، فقال : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ، قال : هي العهود .
10898 - حدثنا المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : " أوفوا بالعقود " ، قال : العهود .
10899 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ، قال : هي العهود .
10900 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال : سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال : سمعت الضحاك يقول : " أوفوا بالعقود " ، بالعهود . [ ص: 451 ]
10901 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة في قوله : " أوفوا بالعقود " ، قال : بالعهود .
10902 - حدثنا محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال : حدثنا أسباط ، عن : " السدي أوفوا بالعقود " ، قال : هي العهود .
10903 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : سمعت الثوري يقول : " أوفوا بالعقود " ، قال : بالعهود .
10904 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن عن ابن جريج ، مجاهد ، مثله .
قال أبو جعفر : و"العقود " جمع "عقد" ، وأصل "العقد" ، عقد الشيء بغيره ، وهو وصله به ، كما يعقد الحبل بالحبل ، إذا وصل به شدا . يقال منه : "عقد فلان بينه وبين فلان عقدا ، فهو يعقده" ، ومنه قول الحطيئة :
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
[ ص: 452 ]وذلك إذا واثقه على أمر وعاهده عليه عهدا بالوفاء له بما عاقده عليه ، من أمان وذمة ، أو نصرة ، أو نكاح ، أو بيع ، أو شركة ، أو غير ذلك من العقود .
ذكر من قال المعنى الذي ذكرنا عمن قاله في المراد من قوله : " أوفوا بالعقود " .
10905 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ، أي : بعقد الجاهلية . ذكر لنا . وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : أوفوا بعقد الجاهلية ، ولا تحدثوا عقدا في الإسلام فرات بن حيان العجلي ، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : لعلك تسأل عن حلف لخم وتيم الله ؟ فقال : نعم ، يا نبي الله! قال : لا يزيده الإسلام إلا شدة . أن
10906 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : " أوفوا بالعقود " ، قال : عقود الجاهلية : الحلف .
وقال آخرون : بل هي الحلف التي أخذ الله على عباده بالإيمان به وطاعته ، فيما أحل لهم وحرم عليهم .
ذكر من قال ذلك :
10907 - حدثني المثنى قال : أخبرنا عبد الله قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " أوفوا بالعقود " ، يعني : ما أحل وما حرم ، وما فرض ، وما حد في القرآن كله ، فلا تغدروا ولا تنكثوا . ثم شدد ذلك فقال : ( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) إلى قوله : ( سوء الدار ) [ سورة الرعد : 35 ] .
10908 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن [ ص: 453 ] ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " أوفوا بالعقود " ، ما عقد الله على العباد مما أحل لهم وحرم عليهم .
وقال آخرون : بل هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم ، ويعقدها المرء على نفسه .
ذكر من قال ذلك :
10909 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثني أبي ، عن موسى بن عبيدة ، عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال : العقود خمس : عقدة الأيمان ، وعقدة النكاح ، وعقدة العهد ، وعقدة البيع ، وعقدة الحلف .
10910 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا عن وكيع ، موسى بن عبيدة ، عن أو عن أخيه محمد بن كعب القرظي عبد الله بن عبيدة ، نحوه .
10911 - حدثني قال : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ، قال : عقد العهد ، وعقد اليمين وعقد الحلف ، وعقد الشركة ، وعقد النكاح . قال : هذه العقود ، خمس .
10912 - حدثني المثنى قال : حدثنا عتبة بن سعيد الحمصي قال : حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال : حدثنا أبي في قول الله جل وعز : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ، قال : العقود خمس : عقدة النكاح ، وعقدة الشركة ، وعقد اليمين ، وعقدة العهد ، وعقدة الحلف .
وقال آخرون : بل هذه الآية أمر من الله تعالى لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم ، من العمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند الله .
[ ص: 454 ]
ذكر من قال ذلك :
10913 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن : " ابن جريج أوفوا بالعقود " ، قال : العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب : أن يعملوا بما جاءهم .
10914 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثني الليث قال : حدثني يونس قال : محمد بن مسلم : قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه على نجران فكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم ، فيه : "هذا بيان من الله ورسوله : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " ، فكتب الآيات منها حتى بلغ" إن الله سريع الحساب " . قال
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ، ما قاله ابن عباس ، وأن معناه : أوفوا ، يا أيها الذين آمنوا ، بعقود الله التي أوجبها عليكم ، وعقدها فيما أحل لكم وحرم عليكم ، وألزمكم فرضه ، وبين لكم حدوده .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال ، لأن الله جل وعز أتبع ذلك البيان عما أحل لعباده وحرم عليهم ، وما أوجب عليهم من فرائضه . فكان معلوما بذلك أن قوله : " أوفوا بالعقود " ، أمر منه عباده بالعمل بما ألزمهم من فرائضه وعقوده عقيب ذلك ، ونهي منه لهم عن نقض ما عقده عليهم منه ، مع أن قوله : " أوفوا بالعقود " ، أمر منه بالوفاء بكل عقد أذن فيه ، فغير جائز أن يخص منه شيء حتى تقوم حجة بخصوص شيء منه يجب التسليم لها . فإذ كان الأمر في ذلك كما وصفنا ، فلا معنى لقول من وجه ذلك إلى معنى الأمر بالوفاء ببعض العقود التي أمر الله بالوفاء بها دون بعض .
[ ص: 455 ]
وأما قوله : "أوفوا" فإن للعرب فيه لغتين :
إحداهما : "أوفوا" ، من قول القائل : "أوفيت لفلان بعهده ، أوفي له به" .
والأخرى من قولهم : "وفيت له بعهده أفي" .
و"الإيفاء بالعهد" ، إتمامه على ما عقد عليه من شروطه الجائزة .