قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا ، حدثنا عبد الله بن المبارك مسعر حدثني معن وعوف - أو : أحدهما - أن رجلا أتى [ رضي الله عنه ] فقال : اعهد إلي . فقال : إذا سمعت الله يقول : ( عبد الله بن مسعود يا أيها الذين آمنوا ) فارعها سمعك ، فإنه خير يأمر به ، أو شر ينهى عنه .
وقال : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا - حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم - دحيم الوليد حدثنا الأوزاعي عن الزهري قال : إذا قال الله : ( يا أيها الذين آمنوا ) افعلوا ، فالنبي صلى الله عليه وسلم منهم .
وحدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا محمد بن عبيد حدثنا الأعمش عن قال : كل شيء في القرآن : ( خيثمة يا أيها الذين آمنوا ) فهو في التوراة : " يا أيها المساكين " .
فأما ما رواه عن زيد بن إسماعيل الصائغ البغدادي ، حدثنا معاوية - يعني : ابن هشام - عن عيسى بن راشد ، عن علي بن بذيمة ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : ما في القرآن آية : ( يا أيها الذين آمنوا ) إلا أن عليا سيدها وشريفها وأميرها ، وما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد إلا قد عوتب في القرآن إلا ، فإنه لم يعاتب في شيء منه . فهو أثر غريب ولفظه فيه نكارة ، وفي إسناده نظر . علي بن أبي طالب
قال : البخاري عيسى بن راشد هذا مجهول ، وخبره منكر . قلت : وعلي بن بذيمة - وإن كان ثقة - إلا أنه شيعي غال ، وخبره في مثل هذا فيه تهمة فلا يقبل . وقوله : " ولم يبق أحد من الصحابة إلا [ ص: 7 ] عوتب في القرآن إلا عليا " إنما يشير به إلى الآية الآمرة بالصدقة بين يدي النجوى ، فإنه قد ذكر غير واحد أنه لم يعمل بها أحد إلا علي ونزل قوله : ( أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله ) الآية [ سورة المجادلة : 13 ] وفي كون هذا عتابا نظر ; فإنه قد قيل : إن الأمر كان ندبا لا إيجابا ، ثم قد نسخ ذلك عنهم قبل الفعل ، فلم ير من أحد منهم خلافه . وقوله عن علي : " إنه لم يعاتب في شيء من القرآن " فيه نظر أيضا ; فإن الآية التي في الأنفال التي فيها المعاتبة على أخذ الفداء عمت جميع من أشار بأخذه ، ولم يسلم منها إلا ، رضي الله عنه ، فعلم بهذا ، وبما تقدم ضعف هذا الأثر ، والله أعلم . عمر بن الخطاب
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث حدثني يونس قال : قال محمد بن مسلم : قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران ، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم ، فيه : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) فكتب الآيات منها حتى بلغ : ( إن الله سريع الحساب ) . هذا بيان من الله ورسوله : (
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا ، حدثنا يونس بن بكير محمد بن إسحاق ، حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه قال : هذا لعمرو بن حزم ، حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنة ، ويأخذ صدقاتهم . فكتب له كتابا وعهدا ، وأمره فيه بأمره ، فكتب : " بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من الله ورسوله : ( كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا ، الذي كتبه يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ) عهد من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم ، حين بعثه إلى اليمن ، أمره بتقوى الله في أمره كله ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون " .
قوله تعالى ( أوفوا بالعقود ) قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : يعني بالعقود : العهود . وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك قال : والعهود ما كانوا يتعاهدون عليه من الحلف وغيره . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله ( بالعقود يا أيها الذين آمنوا أوفوا ) يعني بالعهود : يعني ما أحل الله وما حرم ، وما فرض وما حد في القرآن كله ، فلا تغدروا ولا تنكثوا ، ثم شدد في ذلك فقال : ( والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ) إلى قوله : ( سوء الدار ) [ الرعد : 25 ] .
وقال الضحاك : ( أوفوا بالعقود ) قال : ما أحل الله وما حرم وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال والحرام .
[ ص: 8 ] وقال : ( زيد بن أسلم أوفوا بالعقود ) قال : هي ستة : عهد الله ، وعقد الحلف ، وعقد الشركة ، وعقد البيع ، وعقد النكاح ، وعقد اليمين .
وقال محمد بن كعب : هي خمسة منها : حلف الجاهلية ، وشركة المفاوضة .
وقد استدل بعض من ذهب إلى أنه لا خيار في مجلس البيع بهذه الآية : ( أوفوا بالعقود ) قال : فهذا يدل على لزوم العقد وثبوته ، فيقتضي نفي خيار المجلس ، وهذا مذهب أبي حنيفة . وخالفهما ومالك الشافعي والجمهور ، والحجة في ذلك ما ثبت في الصحيحين ، عن وأحمد بن حنبل ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وفي لفظ " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " : " للبخاري وهذا صريح في إثبات خيار المجلس المتعقب لعقد البيع ، وليس هذا منافيا للزوم العقد ، بل هو من مقتضياته شرعا ، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقد . إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا "
وقوله تعالى : ( أحلت لكم بهيمة الأنعام ) هي : الإبل والبقر ، والغنم . قاله الحسن وقتادة وغير واحد . قال ابن جرير : وكذلك هو عند العرب . وقد استدل ابن عمر ، وغير واحد بهذه الآية على وابن عباس ، وقد ورد في ذلك حديث في السنن ، رواه إباحة الجنين إذا وجد ميتا في بطن أمه إذا ذبحت أبو داود والترمذي ، من طريق وابن ماجه مجالد عن أبي الوداك جبر بن نوف ، عن أبي سعيد ، قال : " . وقال قلنا : يا رسول الله ، ننحر الناقة ، ونذبح البقرة أو الشاة في بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله؟ فقال : " كلوه إن شئتم ; فإن ذكاته ذكاة أمه الترمذي : حديث حسن .
[ و ] قال أبو داود : حدثنا ، حدثنا محمد بن يحيى بن فارس إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عتاب بن بشير ، حدثنا عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي ، عن ، عن أبي الزبير ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " جابر بن عبد الله " . تفرد به ذكاة الجنين ذكاة أمه أبو داود .
وقوله : ( إلا ما يتلى عليكم ) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني بذلك : الميتة والدم ولحم الخنزير .
وقال قتادة : يعني بذلك الميتة ، وما لم يذكر اسم الله عليه .
والظاهر - والله أعلم - أن المراد بذلك قوله : ( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ) فإن هذه وإن كانت من الأنعام إلا أنها تحرم بهذه العوارض ; ولهذا قال : ( إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب ) يعني : منها . فإنه حرام لا يمكن استدراكه ، وتلاحقه ; ولهذا قال تعالى : ( أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم ) أي : إلا ما سيتلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال .
[ ص: 9 ] وقوله : ( غير محلي الصيد وأنتم حرم ) قال بعضهم : هذا منصوب على الحال . والمراد من الأنعام : ما يعم الإنسي من الإبل والبقر والغنم ، وما يعم الوحشي كالظباء والبقر والحمر ، فاستثنى من الإنسي ما تقدم ، واستثنى من الوحشي . الصيد في حال الإحرام
وقيل : المراد [ أحللنا لكم الأنعام إلا ما استثني لمن التزم تحريم الصيد وهو حرام ، كقوله : ( فمن اضطر غير باغ ولا عاد ) أي : أبحنا بشرط أن يكون غير باغ ولا عاد ، أي : كما ] أحللنا الأنعام لكم في جميع الأحوال ، فحرموا الصيد في حال الإحرام ، فإن الله قد حكم بهذا وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه ; ولهذا قال : ( تناول الميتة للمضطر إن الله يحكم ما يريد )
ثم قال : ( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ) قال ابن عباس : يعني بذلك مناسك الحج .
وقال مجاهد : الصفا والمروة والهدي والبدن من شعائر الله .
وقيل : شعائر الله محارمه [ التي حرمها ] أي : لا تحلوا محارم الله التي حرمها تعالى ; ولهذا قال [ تعالى ] ( ولا الشهر الحرام ) يعني بذلك تحريمه والاعتراف بتعظيمه ، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه من الابتداء بالقتال ، وتأكيد اجتناب المحارم ، كما قال تعالى : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ) [ البقرة : 217 ] ، وقال تعالى : ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا [ في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ] ) الآية . [ التوبة : 36 ] .
وفي صحيح : عن البخاري أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : . " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ، ثلاث متواليات : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان "
وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت ، كما هو مذهب طائفة من السلف .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : ( ولا الشهر الحرام ) يعني : لا تستحلوا قتالا فيه . وكذا قال مقاتل بن حيان ، واختاره وعبد الكريم بن مالك الجزري ابن جرير أيضا ، وقد ذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ ، وأنه يجوز ، واحتجوا بقوله : ( ابتداء القتال في الأشهر الحرم فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) [ التوبة : 5 ] قالوا : والمراد أشهر التسيير الأربعة ، [ ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) ] قالوا : فلم يستثن شهرا حراما من غيره .
وقد حكى الإمام أبو جعفر [ رحمه الله ] الإجماع على أن الله قد أحل وغيرها من شهور السنة ، قال : وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه أو [ ص: 10 ] ذراعيه بلحاء جميع أشجار الحرم ، لم يكن ذلك له أمانا من القتل ، إذا لم يكن تقدم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان ولهذه المسألة بحث آخر ، له موضع أبسط من هذا . قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم
[ و ] قوله : ( ولا الهدي ولا القلائد ) يعني : لا تتركوا الإهداء إلى البيت ; فإن فيه تعظيما لشعائر الله ، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام ، وليعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء ، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها ، فإن من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ; ولهذا لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بات بذي الحليفة ، وهو وادي العقيق ، فلما أصبح طاف على نسائه ، وكن تسعا ، ثم اغتسل وتطيب وصلى ركعتين ، ثم أشعر هديه وقلده ، وأهل بالحج والعمرة وكان هديه إبلا كثيرة تنيف على الستين ، من أحسن الأشكال والألوان ، كما قال تعالى : ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) [ الحج : 32 ] .
قال بعض السلف : إعظامها : استحسانها واستسمانها .
وقال : علي بن أبي طالب . رواه أهل السنن أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن
وقال مقاتل بن حيان : ( ولا القلائد ) فلا تستحلوا ، وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجر الحرم ، فيأمنون به . وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر
رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد بن العوام ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال : نسخ من هذه السورة آيتان : آية القلائد ، وقوله : ( فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ) [ المائدة : 42 ] .
وحدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا زكريا بن عدي ، حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن ابن عون قال : قلت للحسن : نسخ من المائدة شيء ؟ قال : لا .
وقال عطاء : كانوا يتقلدون من شجر الحرم ، فيأمنون ، فنهى الله عن قطع شجره . وكذا قال مطرف بن عبد الله .
وقوله : ( ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ) أي : ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام ، الذي من دخله كان آمنا ، وكذا من قصده طالبا فضل الله وراغبا في رضوانه ، فلا تصدوه ولا تمنعوه ولا تهيجوه .
قال مجاهد وعطاء وأبو العالية ومطرف بن عبد الله وعبد الله بن عبيد بن عمير والربيع [ ص: 11 ] بن أنس وقتادة في قوله : ( ومقاتل بن حيان يبتغون فضلا من ربهم ) يعني بذلك : التجارة .
وهذا كما تقدم في قوله : ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) [ البقرة : 198 ]
وقوله : ( ورضوانا ) قال ابن عباس : يترضون الله بحجهم .
وقد ذكر عكرمة والسدي : أن هذه الآية نزلت في وابن جريج الحطم بن هند البكري ، كان قد أغار على سرح المدينة فلما كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت ، فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا في طريقه إلى البيت ، فأنزل الله عز وجل ( ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ) .
وقد حكى ابن جرير الإجماع على أن البيت الحرام أو بيت المقدس ; فإن هذا الحكم منسوخ في حقهم ، والله أعلم . فأما من قصده بالإلحاد فيه والشرك عنده والكفر به ، فهذا يمنع كما قال [ تعالى ] ( المشرك يجوز قتله ، إذا لم يكن له أمان ، وإن أم يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) [ التوبة : 28 ] ولهذا الصديق على الحجيج - عليا وأمره أن ينادي على سبيل النيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة ، وألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوفن بالبيت عريان . بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تسع - لما أمر
وقال [ علي ] بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( ولا آمين البيت الحرام ) يعني من توجه قبل البيت الحرام ، فكان المؤمنون والمشركون يحجون البيت الحرام ، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا يحج البيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر ، ثم أنزل الله بعدها : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) [ التوبة : 28 ] وقال تعالى : ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ) [ التوبة : 17 ] وقال [ تعالى ] : ( إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر ) [ التوبة : 18 ] فنفى المشركين من المسجد الحرام .
وقال عبد الرزاق : حدثنا معمر عن قتادة في قوله : ( ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام ) قال : منسوخ ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من الشجر ، فلم يعرض له أحد ، وإذا رجع تقلد قلادة من شعر فلم يعرض له أحد . وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت ، فأمروا ألا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت ، فنسخها قوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) [ التوبة : 5 ] . .
وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله : ( ولا القلائد ) يعني : إن تقلد قلادة من الحرم فأمنوه ، قال : ولم تزل العرب تعير من أخفر ذلك ، قال الشاعر :
[ ص: 12 ]
ألم تقتلا الحرجين إذ أعورا لكم يمران الأيدي اللحاء المصفرا
وقوله : ( وإذا حللتم فاصطادوا ) أي : إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه ، فقد أبحنا لكم ما كان محرما عليكم في حال الإحرام من الصيد . وهذا أمر بعد الحظر ، والصحيح الذي يثبت على السبر : أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي ، فإن كان واجبا رده واجبا ، وإن كان مستحبا فمستحب ، أو مباحا فمباح . ومن قال : إنه على الوجوب ، ينتقض عليه بآيات كثيرة ، ومن قال : إنه للإباحة ، يرد عليه آيات أخر ، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه ، كما اختاره بعض علماء الأصول ، والله أعلم .
وقوله : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا ) ومن القراء من قرأ : " أن صدوكم " بفتح الألف من " أن " ومعناها ظاهر ، أي : لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وذلك عام الحديبية ، على أن تعتدوا [ في ] حكم الله فيكم فتقتصوا منهم ظلما وعدوانا ، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في كل أحد . وهذه الآية كما سيأتي من قوله تعالى : ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) [ المائدة : 8 ] أي : لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل ، فإن ، في كل أحد ، في كل حال . العدل واجب على كل أحد
وقال بعض السلف : ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه ، والعدل به قامت السموات والأرض .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سهل بن عثمان حدثنا عبد الله بن جعفر ، عن قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن أسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت ، وقد اشتد ذلك عليهم ، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق ، يريدون العمرة ، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم . فأنزل الله هذه الآية .
والشنآن هو : البغض . قاله ابن عباس وغيره ، وهو مصدر من شنأته أشنؤه شنآنا ، بالتحريك ، مثل قولهم : جمزان ، ودرجان ورفلان ، من جمز ، ودرج ، ورفل . قال ابن جرير : من العرب من يسقط التحريك في شنآن ، فيقول : شنان . قال : ولم أعلم أحدا قرأ بها ، ومنه قول الشاعر :
وما العيش إلا ما تحب وتشتهي وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
وقوله : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات ، وهو البر ، وترك المنكرات وهو التقوى ، وينهاهم عن التناصر على الباطل . [ ص: 13 ] والتعاون على المآثم والمحارم .
قال ابن جرير : الإثم : ترك ما أمر الله بفعله ، والعدوان : مجاوزة ما حد الله في دينكم ، ومجاوزة ما فرض عليكم في أنفسكم وفي غيركم .
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا هشيم حدثنا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس ، عن جده أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " . قيل : يا رسول الله ، هذا نصرته مظلوما ، فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ قال : " تحجزه تمنعه فإن ذلك نصره " انصر أخاك ظالما أو مظلوما .
انفرد به من حديث البخاري هشيم به نحوه ، وأخرجاه من طريق ثابت عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " . انصر أخاك ظالما أو مظلوما " . قيل : يا رسول الله ، هذا نصرته مظلوما ، فكيف أنصره ظالما؟ قال : " تمنعه من الظلم ، فذاك نصرك إياه "
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد حدثنا ، عن سفيان بن سعيد يحيى بن وثاب ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : . " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، أعظم أجرا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم "
وقد رواه أحمد أيضا في مسند عبد الله بن عمر : حدثنا حجاج حدثنا شعبة عن الأعمش عن يحيى بن وثاب ، عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، [ قال الأعمش : هو ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ] أنه قال : . " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم "
وهكذا رواه الترمذي من حديث شعبة من طريق وابن ماجه إسحاق بن يوسف ، كلاهما عن الأعمش به .
وقال : حدثنا الحافظ أبو بكر البزار إبراهيم بن عبد الله بن محمد أبو شيبة الكوفي ، حدثنا بكر بن عبد الرحمن ، حدثنا عيسى بن المختار ، عن ، عن ابن أبي ليلى فضيل بن عمرو ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدال على الخير كفاعله . ثم قال : لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد . "
[ ص: 14 ]
قلت : وله شاهد في الصحيح : . " من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا "
وقال : حدثنا أبو القاسم الطبراني عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن زبريق الحمصي ، حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن الحارث ، عن عبد الله بن سالم ، عن الزبيدي قال عباس بن يونس : إن أبا الحسن نمران بن مخمر حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " " . من مشى مع ظالم ليعينه ، وهو يعلم أنه ظالم ، فقد خرج من الإسلام